{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} الآفات الاجتماعية والنفسية أمراض تصاب بها النفس الإنسانية ، وهو ضعف يرد إلى النفوس ، وأفحش هذه الأمراض النفاق ، فهو ضعف يصيب النفوس يبتدئ من أحقر الأفراد إلى أن يصل إلى أعلاها ، ولا يظن أن النفاق يكون فقط لجلب نفع آثم ، أو لدفع ضرر جاثم ، بل هو ضعف نفسي يحيط بالإنسان ويتغلغل في نفسه ، وإطلاق كلمة{ مرض} هنا ، يصح أن يكون من قبل الحقيق ؛ لأن المرض هو ما يؤذي النفس ، ويلقي بها في الضعف ، وليس ذلك مقصورا على المرض الذي يصيب الجسم بل هو يشمل ما يصيبه في أعصابه ، كالجنون الذي يستر العقل ، وكالعته الذي يمنع الإدراك ، وكالسفه الذي لا يدري النفع من الضرر ، فهذه كلها أمراض ، وتعد في اللغة أمراضا ، كذلك مرض النفاق الذي يصيب النفوس بالوهن والحيرة ، والحقد والبغض لخير الناس ، وأن يكون صاحب هذا المرض غير مستقر بل هو في بلبال مستمر ، تزداد حاله كلما تمكن فيه هذا الداء ، وهو ساكن في النفس لا تخرج مظاهره ، وكلما استتر واستكن ازداد قوة وإيغالا في النفس حتى يصعب علاجه ، فإذا كان الكذب المجرد قد يعالج ، فالنفاق مرض لا علاج له .
وكان يراد المجاز بتشبيه النفاق بالمرض العضال الذي لا يشفى ، ومرض النفاق فساد القلب ، وقد صور ذلك الزمخشري في قوله:والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد ، والغل والحسد ، والميل إلى المعاصي والعزم عليها والبغضاء ؛ لأن صدورهم كانت تغلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، غلا وحنقا ، ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله:{ قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر . . .( 118 )} [ آل عمران] .
ومن التفسير المأثور أن المرض هو النفاق ، وهو مرض إذا أصاب القلب فقد الإيمان بأي شيء من شؤون الأخلاق أو الاتصال بالناس ، فإنه يصبح في غربة عن أهل الحق وأهل المعرفة ، والاتصال بهم ، فيكون في جو معتم ، تسوده الكآبة ولا يظله نور الحق ، وذلك شر ما يقع فيه الإنسان .
وإن المنافق إذا أوغل في قلبه النفاق انتقل به من دركة إلى دركة أسفل منها ، فيزيد خسرانا بإيغاله . كالسائر في متاهة ، كلما أوغل فيها ازداد ضلالا وبعدا عن الطريق الجدد ، حيث الأعلام{[51]} . وهذا معنى:{ فزادهم الله مرضا} أي أنهم بسيرهم في هذا الطريق الضال يزدادون إيغالا فيه ، فيزيد مرضهم بتقدير الله تعالى ؛ لأنهم قد أوغلوا مختارين فيه .
وهكذا كل المعاصي والذنوب التي هي أمراض القلب ، من اختارها ، فقد اختار الضلالة كلما سار فيها ازداد بعدا عن الحق وعن الطريق القويم فيوغل في المعاصي ، لا يعود ولا يتوب .
وقد بين الله تعالى عاقبتهم ، فقال:{ ولهم عذاب أليم} أي عذاب مؤلم شديد ، فأليم هنا بمعنى مؤلم ، يصيب أجسادهم يوم القيامة كقوله تعالى:{ بديع السماوات والأرض . . . ( 117 )} [ البقرة] أي مبدع السماوات والأرض يعني منشئها على غير مثال سبق ، فيكون لهم جزاءان أحدهما دنيوي ، وهو متولد من النفاق نفسه إذ يكونون في اضطراب لا يستقرون على قرار ، ولا يطمئنون ؛ إذ الغل والحقد والحسد يقتل نفوسهم قتلا ، ويستمرون على ذلك ، حتى يكون هذا مرضا خبيثا يسكن نفوسهم ، حتى ينغص عليهم حياتهم ، وتكون كل نعمة تنزل بأهل الإيمان والحق نقمة عليهم .
الجزاء الثاني هو العذاب الشديد المؤلم الذي ينالهم يوم القيامة ، وهو ينتظرهم ، وهم واردون عليه بلا ريب ، ولقد بين الله سبحانه وتعالى سبب ذلك العذاب الذي هو الجزاء الثاني فقال تعالت كلماته:{ بما كانوا يكذبون} فالباء هنا باء السببية ، أي بسبب الكذب المستمر الذي كانوا يقومون به ، ف"كانوا"هنا دالة على الاستقرار والدوام ، كما في قوله تعالى:{ وكان الله غفورا رحيما ( 70 )} [ الفرقان] وكما في قوله تعالى:{ إنه كان ظلوما جهولا ( 72 )} [ الأحزاب] .
فمعنى{ بما كانوا يكذبون} ، بسبب كذبهم المستمر الذي لا ينقطع ، وقد اتصفوا بالكذب:( 1 ) فكذبوا على أنفسهم ، فكلما بدا لهم ضوء الحق طمسوه ، وغروها الغرور ، وخدعوها بأنهم أهل الحق ، وموهوا عليها ، كما موهوا على الناس ، فصارت في عماء ، وغلبت عليها شقوتها .
( 2 ) وكذبوا على الرسول وأصحابه ، وقالوا آمنا بالحق وباليوم الآخر .
( 3 ) وكانوا لا يصدقون في حديث مع الناس ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف المنافق:( آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ){[52]} .