ظاهرة النفاق: عللّها وأسبابها:
] فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ[ في هذه الفقرة محاولة لتفسير ظاهرة النفاق وتعليل أسبابها ،بكونها عقدةً تتحكم في داخل الإنسان ومرضاً نفسياً أو روحياً يعاني منه ؛ذلك أنّ الإنسان إمّا أن يؤمن بالشيء وإمّا أن لا يؤمن به .وعلى كلتا الحالتين ،فإنَّ الوضع الطبيعي الصحي ،هو أن يسير على ما يوحي به موقفه ،فإذا كان مؤمناً ،انطلقت سيرته في خطّ إيمانه ،وتحرّكت حياته في هذا الاتجاه ..أمّا إذا كان كافراً ،فإنَّ الكفر يفرض عليه أن يحدّد لحياته الخطوط التي لا تلتقي بالإيمان من قريب أو من بعيد ،سواء في ذلك مشاعره الداخلية أو خطواته العملية ،لكن أن يرفض الإنسان الإيمان ويعمل عمل المؤمن ،فهذا موقف غير طبيعي في حياته ،لأنَّ الموقف الطبيعي هو أن ينبع عمله من إيمانه وتفكيره .
وقد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنعرف أنَّ أية حالة غير طبيعية تعتبر ظاهرة مرضية في حياة الإنسان ،سواء أكانت موجودة في جسده ،أم في روحه ،أم في تفكيره .ولهذا اعتبر اللّه النفاق مرضاً ينطلق من عقدة نفسية ،تحمل في داخلها طبيعة الشخصية المزدوجة التي تتمثل في الداخل بصورة وحركة تختلفان عن الصورة والحركة الموجودتين في الخارج .
وقد لا تكون هذه العقدة ،أو هذا المرض ،من الأشياء الأصيلة في ذات الإنسان ،بل قد ينشأ ذلك من حالة الخوف من مواجهة المجتمع بما يخالف تفكيره وأوضاعه ..وقد تنشأ من حالة الطمع الذي يمنع الإنسان من الوقوف في المواقع الحاسمة التي لا تنسجم مع مصادر الطمع وموارده .وقد تنشأ من حالة نفسية قلقة يعيش الإنسان معها طبيعة الحَيْرة والتردّد في كلّ موقف من مواقف الحياة ،وقد يتبين لنا ممّا يأتي من الآيات القرآنية ،ما يوحي بطبيعة «العقدة النفاقية » في ما يعيشه المنافقون في واقع الإسلام منذ بدايات عهد الدعوة الإسلامية حتى اليوم .
النفاق في سياق قانون السببية:
] فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضًا[ قد يتساءل المرء عن هذه الزيادة التي ينسبها اللّه إلى نفسه ،فهل أراد اللّه لهذا المرض أن يزيد بشكل مباشر ؟وكيف تتعلّق إرادة اللّه بتعاظم النفاق في داخل هؤلاء المنافقين ،في الوقت الذي يلعن فيه اللّه النفاق والمنافقين ؟
وقد يكون الجواب في هذا المجال ،أنَّ هذا التعبير ينسجم مع التعابير القرآنية الكثيرة التي ينسب فيها الفعل إلى اللّه ،باعتبار أنَّ القوانين الطبيعية التي تقتضيها طبيعة الأشياء ،في ما أودعه فيها من علاقة السببية ،تستتبع هذا الفعل ،وتقتضيه ،مما يبرز نسبته إلى اللّه باعتباره مسبِّب الأسباب ،ومكوِّن القوانين التي تحكم الأشياء ،من دون أن ينافي ذلك نسبته إلى الإنسان ،باعتباره الأداة المحركة للفعل بشكل مباشر ،من خلال الإرادة المنطلقة من حركة العقل والفكر .
وعلى ضوء هذا نفهم الآيات ؛فإنَّ هذه العقدة انطلقت في حياة المنافقين على أساسٍ لا يبتعد عن حالة الإرادة والاختيار ،واستمرت معهم بدون علاج ،بل كان الأمر بالعكس ؛زيادةً في ممارسة النفاق ،وإمعاناً في تأكيد طبيعته في الداخل والخارج ،ما أوجب تعقيداً في المرض ،واتساعاً لدوائره ،تماماً كالمريض الذي يهمل مرضه ،فلا يعالجه ،بل يبقىزيادة على ذلكفي تعامل مستمر مع أسبابه ،ما يوجب تطوّره إلى الأسوأ ،من خلال السنن الطبيعية التي أودعها اللّه في الكون ،في مسائل الصحة والمرض ،سواء أكانت جسدية أم روحية .
] وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ[ فهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن هذا الوضع الذي يعيشونه ويمارسون فيه الكذب كلمةً ،وموقفاً ،وعملاً ،عن عمد وسبق إصرار .ومهما كانت الظاهرة مرضية ،فإنها لا تبرر ما يؤدّونه من أعمال ،لأنَّ المرض اختياري في بداياته ،وقد كانوا قادرين على أن لا يقعوا في نهاياته ،لأنهم يستطيعون أن يتخلصوا منه إذا شاءوا .