وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[.قد توحي هذه الآية الكريمة بأنَّ المنافقين كانوا يقومون ببعض الأعمال ،أو يطرحون بعض الشعارات ،في داخل الحياة الإسلامية ،ممّا كان يسيء إلى خطّ الإيمان ،ويفسح في المجال لحركة فسادٍ في العقيدة والسلوك والعلاقات ،وقد يتمثّل ذلك بعمل المعاصي ،وصدِّ النّاس عن الإيمان بالأساليب الملتويةعلى ما روي عن ابن عباسأو بممالأة الكفار ،فإنَّ فيه توهين الإسلام ،على ما قاله أبو علي ،أو بتغيير الملة وتحريف الكتاب على ما قاله الضحاك[ 3] ..وقد يتمثّل في غير ذلك مما ذكره المفسّرون .والظاهر أنَّ مثل هذه التفسيرات لم تنطلق من نص ديني مأثور عن النبيّ ( ص ) ،ولكنَّها ارتكزت على ملاحقة بعض الآيات التي تتحدّث عن المنافقين في سلوكهم العملي تجاه النبيّ ( ص ) ،مما لا يبرّر لنا حصره في نطاق خاص ،لأنه لا يحاول حصر هذه الحالات به ،بل يحاول عرض بعض ملامحها المتعلّقة بالأفكار الإسلامية العامة .
وعلى ضوء ذلك ،يمكن لهذه الآية أن تتحرّك في كلّ مجال من مجالات حركة النفاق في داخل المجتمع ،مما قد يوحي ظاهره بالصلاح ،ولكنَّه يحمل الفساد في أهدافه ووسائله ودوافعه ..ولعلّنا نواجه مثل هذه الحالات في سلوك الكثيرين من حملة الأفكار التي تتحرّك في اتجاه إثارة الفوضى والدمار في المجتمع باسم الإصلاح الذي يستهدف تغيير الواقع من خلال نسف جذوره ،كما نواجه ذلك في كلمات البعض ممّن يفسحون المجال في المجتمع للدعوات والأعمال التي يطلقها أصحاب الهوى والفجور والانحلال ،حيث يحاولون تبرير ذلك بأنه ثورة على الجمود ،وتحرير للإرادة الإنسانية من عوامل الكبت الداخلي ،وتحطيم للعقد النفسية المرضية التي تؤدي إلى ما يشبه الشلل في حركة الفرد والمجتمع ،كما نلاحظ ذلك في الدعوات التي تبرر الأزياء الفاضحة أو العري المنحلّ ،بأنه يمنح الإنسان صحة نفسية يتعافى بها من كلّ العقد الداخلية .
ومن الطريف أن نجد في بعض التحليلات النفسية لحركة التحرر في الأزياء التي تعمل على تقصير الثياب إلى أبعد مدى ،أنَّ القضية قضية تحطيم للحواجز النفسية الداخلية للمرأة إزاء حركة الحياة في تفكيرها وسلوكها ،وليست مجرّد تقصير للثياب ،فكلّما استطعنا تمزيق أي نوع من الحجاب ،أو أي مقدار من الثياب ،استطعنا أن نمزّق حاجزاً نفسياً ،وحاجباً روحياً للمرأة ،ما يجعل من قضية الانحلال الداخلي قضية ترتبط بقضايا الحرية في العالم ،من دون مراعاة للأسس الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي ترتكز عليها هذه القيم التي يدعو إليها الدِّين ويرعاها في مفاهيمه وشريعته .وعلى هذا الأساس ،نقف مع الآية وقفة استيحاء ،فقوله تعالى:] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ[،أي إذا نهوا عن الفساد البيّن ،فهم يحاولون فلسفته وإعطاءه الصفات التي تجعله واجهة من واجهات الإصلاح ،ويمنحون أنفسهم ،من خلال ذلك ،صفة المصلحين الذين يريدون أن يغيّروا القيم التقليدية في العالم .
وتحاول الآية الكريمة أن تعطينامن خلال أسلوبهاانطباعاً ،بأنهم غير مقتنعين بما يطرحونه ،ولكنَّهم يريدون تنفيذ مآربهم ،وبهذا لا تمثّل القضية موقفاً حقيقياً لهم ،لأنهم لا يتعاملون مع المواقف الحقيقية الحاسمة في الحياة ،بل تمثّل محاولةً للفّ والدوران في سبيل تحطيم الركائز الأساسية للمجتمع ،كسبيل من سبل تحطيم الرسالة الشاملة التي تنطلق من هذه الركائز .