ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف المنافقين النفسية التي استغرقت نفوسهم ، وصارت مرضا ملازما لهم كالمرض الجسمي العقام الذي لا يزايل المريض حتى يقضي عليه ، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى أحوالهم في معاملة المؤمنين ، فذكر سبحانه أنهم يفسدون في الأرض ويزعمون لطغوانهم{[53]} أنهم يصلحونها ، أنهم فوق الناس ، ويمارون في القول ، ويظهرون للمؤمنين بوجه ولغيرهم من إخوانهم بوجه آخر حين يلقونهم ، يحسبون أنهم يستهزئون بالمؤمنين .
ولقد كان المنافقون يفسدون في الأرض بين الناس ، والفساد في الأشياء أن تخرج عما خلقت له إلى ما يضر ، والصلاح استقامتها حتى تكون في دائرة النفع الإنساني العام ، والمنافقون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفيما بعده من العصور شأنهم الفساد ، ومن كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم قد وضح فسادهم ، واستشرى شرهم ، فهم قد كفروا بالحق إذ جاءهم ، وأنكروا كتاب الله تعالى ورسوله الأمين ، وقد عرفوه ، ومشوا بالنميمة والسعاية بين الناس ، وكلما أطفأ الله نارا للحرب أوقدوها ، ومالئوا المشركين على المؤمنين ، وإذا خرج المؤمنون للقتال عملوا على أن يهموا بالفشل ، يعرفون ضعفاء المسلمين ويغرونهم بالتخلف ، يبتغون الفتنة بين المؤمنين ويقلبون الأمور لإثارتها ، كما قال تعالى:{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ( 48 )} [ التوبة] .
ولقد قال ابن جرير في تفسيره في بيان إفسادهم:أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبهم على المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه ، مقيمون على الشك والريب ، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا ، فذلك إفساد المنافقين في الأرض ، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها ، فهم يحرضون المشركين على المؤمنين ، ويتفقون معهم ، ويدلون على عورات المؤمنين ، ومقاتلهم ، وهكذا .
ويسأل سائل:لماذا قال سبحانه وتعالى:{ في الأرض} ونقول:إن ذلك لبيان عموم فسادهم ، وأنه يتناول المدينة وما حولها .وأن الأرض موطن فسادهم ، يثيرون الحروب فيها ، ويشيعون الشر في ربوعها .
وقوله تعالى:{ وإذا قيل لهم} مع البناء للمجهول للإشارة إلى عموم شرهم ، وإن الناس جميعا يتساءلون:لماذا كان ذلك الفساد ؟ وأي مأرب لهم فيه ؟ ، ولسان الخير يقول لهم:{ لا تفسدوا في الأرض} فهم في حال من الإفساد ، يستنكرها كل إنسان ، ولا يرتضيها رجل للأخلاق عنده مكانة ، وللخير عنده منزع ، فتجهيل اللائم لهم بقوله:{ وإذا قيل} لعموم المستنكرين لحالهم ، وأنهم في واد والناس في واد آخر ، فلا تجد أحدا يوالي منافقا إلا إذا كان على شاكلته .
وإن أشد فساد الفاسد أن يغتر بحاله ، ويزعم أنه ليس بفاسد ، فهو معكوس النفس مركوس ، قد انقلبت الحقائق في عقله ، فلا يعرف الخير من الشر ، ولا الفساد من الصلاح ، وهكذا المنافقون تنكس عليهم الأمور ، فجميعها منكوس .
ولذلك يرد المنافقون قول من يستنكر فسادهم بما حكاه الله تعالى عن نفوسهم:{ قالوا إنما نحن مصلحون} أي قصروا نفوسهم على الإصلاح ، وذلك أن "إنما"تدل على القصر أي قصرهم على الصلاح لا يكون منهم فساد قط ، وذلك أعظم الغرور وأشد الفساد ، فكل ما يفعلون مما ذكرنا وما لم نذكر يعدونه إصلاحا ، ولا يعدونه فسادا ، وهكذا زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا ، وذلك الغرور لا يكون إلا ممن أحاطت به خطيئته ، فأصبح لا يرى إلا ما يكون في دائرته ، وقد سدت عنه كل منافذ الخير .