{ قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرّقنّه ثم لننسفنّه في اليم نسفا 97} ، "الفاء"كما ذكرنا للإفصاح عن شرط مقدر تقديره:إذا كان هذا ما صنعت ، فاذهب إلى أخره ، وقد ذكر له عقابين كما أشرنا عقاب الدنيا وعقاب الآخرة ، فأما الدنيا ، فقد قال فيه:{ فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} أي فإن الذي يبقى لك فيه أن ينفر الناس منك ، وأن تكون في حال من يمسك فيها يؤلمك أشد الإيلام ، فإذا لقيت الناس قلت:لا مساس ، أي لا تمسوني ، وإن ذلك يدل دلالة قاطعة على أن المساس يؤلمه ، فهو مرض يصاب به ، ويكون عبرة بين الناس بآفته .
وأقوال الزمخشري تتجه إلى أن قوله لا مساس منع من مخالطة الناس ، حتى لا يجرهم إلى الضلال والفتنة ، وقال في ذلك:عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطمَّ منها وأوحش ، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا ، وحرم عليه ملاقاتهم ، ومكالمتهم ، ومبايعتهم ، ومواجهتهم ، وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا ، وإذا اتفق أن يماسّ أحدا رجلا أو امرأة حم المماس والممسوس ، فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح:لا مساس ، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم ، ومن الوحش النافر في البرية ، هذا هو عقاب السامري في الدنيا نفرة من الناس ، ونفرة منه لمرض ألم به ، ومنع من الناس ، ونرى الأول كما أشرنا .
وأما العقاب الأخروي فقد ترك أمره لله تعالى ، وقال له موسى{ وإن لك موعدا لن تخلفه} أي أنه جاء لا محالة ، وهو يوم البعث .
واتجه موسى إلى مادة الجريمة بعد أن اتجه إلى المجرم ، وهو صورة العجل ، أو تمثاله فقال:{ وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا} أمره موسى أن ينظر إليه لبيان أنه ليس شيئا يعبد ، فإن المعبود باق يدوم ولا يفنى ، وأمره بالنظر إليه مع التعبير بأنه إلهه الذي يعبده تهكما به ، وبمن اتخذه إلها{ الذي ظلت} مخفف من{ ظلت عليه عاكفا} ، أي ظللت مقيما عابدا لله وحده{ لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا} يقال حرّق الشيء إذا برده بالمبرد ، حتى صار ذرات تنسف ، ومن ذلك قولهم:يحرق الأُرّم ، وإنه بعد برده ينسف في البحر نسفا أي يلقى في البحر ذرات غير متجمعة ولا مجموعة ، ومن الخطأ أن يفسر{ لنحرقنه} بمعنى الإحراق بالنار ، لأن النار تذيب الذهب وتصهره ، ولا تجعله ذرات تنسف ، ولأن اللغة تفسر التحريق بالبرد بالمبرد ، وهو المعقول المناسب للمقام ، والمتفق مع السياق وكلمة النسف .