وقوله تعالى:{ ولا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم} أي لا تفزعوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ، والإتراف هو الانغماس في النعيم ، وأن يكونوا فاكهين فيه ناعمين ، وإن ذلك يؤدي إلى بَطْرِ النعمة وغمط الناس والاستكبار ، ولكن من القائل لهم ذلك ؟ قيل:الملائكة بأمر من الله تعالى ، وعندي أنها حال اعترتهم في نزعهم الأكبر ، فكان الخوف يدفعهم إلى الركض والهروب من البأس ، والحرص الذي استمكن في نفوسهم ، وحرصهم على ما كانوا عليه يناديهم في ذات أنفسهم:لا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم التي كنتم فيها ، وعلى النظر الأول يكون النهي عن الركض والرجوع إلى المتارف والملابس والمساكن التي ارتضوها مثابة لترفهم نوعا من التهكم عليهم ، وكلا الاحتمالين ممكن الحصول ، ويجوز أن يرادا معا ، وقد قال الزمخشري في الكشاف في تصوير معنى الرجوع إلى مساكنهم ، وفي تصوير قوله تعالى:{ لعلكم تسألون} ما نصه:"لعلكم تسألون:تهكم ( على التخريج الأول ) وتوبيخ ، أي ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو:ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجلسكم وتزينوا في مزاينكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم ، ويقول لكم:بم تأمرون ؟ وبماذا ترسمون ؟ وكيف تأتي وتذر كعادة المنعمين المخدومين ، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاونة في نوازل الخطوب ، ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ، ويستشفون بتدابيركم ، ويستضيئون بآرائكم ويسألكم الواردون عليكم ، ويستمطرون سحائب أكفكم ، ويمترون أخلاف معروفكم وأياديكم ، إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء ، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم وتوبيخا إلى توبيخ".
هذا تصوير جيد لحال المترفين الذين ينعمون بنعيم الدنيا والسلطان ، ويكون معنى{ تسألون} على أن الكلام من الملائكة بأمر الله تعالى ، فيكون قوله:{ لعلكم تسألون} فيه توبيخ أبلغ توبيخ . وعلى نظرنا الذي نقول فيه أنهم هم الذين حدثوا أنفسهم بالنهي عن الركوض في هذا الهول ، فيكون لقوله:{ لعلكم تسألون} تصوير لما كانوا عليه من عز ورفاهية تجعلهم مقصودين بالسؤال فهم في حيرة بين الاستجابة لفزعهم بالفرار وبين حرصهم بالبقاء ، ومهما تكن هذه الحيرة فهم يحسون بالمرارة الشديدة والهم الأكبر ، ويحسون بأنهم كانوا ظالمين ولذا:
{ قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين} .