وإن الله تعالى إذ يرسل من البشر يحوطهم بعنايته ، ولذا قال تعالى:
{ ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين} .
الضمير في{ صدقناهم} يعود إلى الأنبياء الذين مر ذكرهم في الآيات السابقة ، وصدق الوعد معناه الوفاء به بأنه يجئ العمل موافقا للعهد ، ومن ذلك قول الرسل صدق ، وقوله تعالى:{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه 23} ( الأحزاب ) .
وقوله تعالى:{ ثم صدقناهم الوعد} العطف ب"ثم' يفيد أنه بين الوعد وصدقه شدائد كثيرة نزلت بالأنبياء من رد وعناد واستهزاء وسخرية وإيذاء ، كما قال تعالى:{ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنُجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين 110} ( يوسف ) فكان العطف ب"ثم"مشيرا إلى هذه الشدائد ، وأنه لم يتبين صدق الوعد إلا بعد شدائد ذاقوها ، ولم تهز إيمانهم ، ولم توجد في قلوبهم يأسا من صدق وعد الله .
ثم قال تعالى:{ فأنجيناهم} "الفاء"تدل على أنه يجئ فور صدق الوعد الإنجاء للرسل ، والإنجاء يشير إلى تضافر القوي ضدهم ،{ ومن نشاء} هم التابعون للأنبياء آمنوا بما جاءوا ، وقد أشار الله تعالى إيمانهم لأنهم اختاروا الهدى ، وقد عبر الله تعالى عنهم بقوله ومن نشاء للإشارة إلى أنهم آمنوا ، لأن الله تعالى شاء لهم الإيمان ، وكل شيء في محيط مشيئته وإرادته ، فلا يقع شيء إلا إذا تعلقت به مشيئة الله ولا يخرج شيء في الوجود عن إرادته .
{ وأهلكنا المسرفين وهم الذين خالفوا النبيين وعاندوهم ولم يؤمنوا ، وكفروا بأنعم الله ، وعبر الله عنهم بالمسرفين ، لأنهم أسرفوا على أنفسهم ، وأوقعوها في الضلال بكفرهم برسالة الله ، وإسرافهم في العناد وإيذاء المؤمنين وإسرافهم في ضلال العقل وعدم الإذعان لأي حجة أو برهان ، وإسرافهم في المعاصي ، وهي إفساد ، والله لا يحب المفسدين .
وإن الله تعالى أهلك بالمسرفين المفسدين دائما ، ولكن بعد أن يرسل النذر ، وقريش اختصت بكتاب فيه علمهم وذكرهم وشرفهم ، ولذا قال عز من قائل:
{ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون} .