هذا وصف لأهل الجنة من أقوالهم وأفعالهم في الدنيا ، أم هو وصف لأقوالهم في الجنة ، وقبل أن نتكلم في مكان القول نشير إلى بعض ما يدل عليه:
القول الطيب هو القول الحق ، الذي يتقرب به إلى الله تعالى ، والذي يقرر القاتل له كمال الله تعالى ووحدة ألوهيته والطاعة لله تعالى ، وتكبيره ، وتقديسه ، وتسبيحه ، والخضوع المطلق له ، وحمده في كل وقت ، و{ صراط الحميد} ، هي طريق الله تعالى بإعلان عبادته وحده لا يشرك به شيئا ، و{ الحميد} ، أي المحمود في كل ما يوصف به ، والإضافة إما أن تكون بيانية ، كقولهم خاتم حديد ، أي خاتم هو حديد ، ويكون المعنى صراط هو الحميد المحمود في كل مسالكه من مبتدئه إلى منتهاه ، فهو طريق كل خير ، ينتقل فيه من مرحلة خير إلى غيرها ، فهو مراحل الاستقامة تبتدئ من أولها إلى نهايتها ، ويصح أن يكون المراد من{ الحميد} ، ذات الله تعالى لأنه المختص بالحمد ، ويكون المعنى ، وهدوا إلى طريق الله تعالى البالغة الموصلة له مثل قوله:{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . . 153} ( الأنعام ) ، وهدوا بالبناء للمجهول في الفعلين ، ولم يذكر الفاعل مع أن الهداية كلها من الله تعالى ، فحذف للعلم به ، ولأن الهداية تتعدد مسالكها ، فهي تبتدئ بعمل من المهدي بأن يتجه إلى الحق مخلصا النية ، فيأخذ الله بيده ويبلغ به إلى أقصى ما يبلغ به من مراتبه .
بقي أن نتكلم في زمانها ومكانها ، أكانت في الدنيا ، وهي التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء الوفاق في الآخرة ، ويكون ذكرها في الجنة تحقيقا لها ، وتأكيدا لها وبيان أن ذلك هو السبب في النعيم الذي آتاهم الله بفضله ومنته ، فبعملهم في الدنيا وأقوالهم الطيبة بالتوحيد والعبادة ، وسلوكهم الطريق الأقوم نالوا ما نالوا في الآخرة .
وثمة اتجاه آخر ، وهو أن هدايتهم إلى القول الطيب ، والصراط الحميد هو في الآخرة ويكون من النعيم النفسي ، إذ إن أهل الجنة يسمرون ويتبادلون القول الطيب ، والسلوك الحميد في الآخرة ، فيضاف إلى إنعام الله إنعام بالسامرة التي ليس فيها فسوق في القول ، بل مبادلة محبة ومحبة ، وعندي أنه يجمع بين القولين ، فتكون الهداية إلى القول الطيب والطريق المحمود في الدنيا والآخرة ، والله أعلم .