بعد أن بين الله تعالى جزاء المؤمنين عاد سبحانه إلى ذكر جزاء الكافرين وأعمالهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال تعالى:
{ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم 25} .
ابتدأ سبحانه وتعالى القول بذكر الكافرين مؤكدا كفرهم ب"إن"الدالة على التأكيد ، وقد ذكر الموصول لبيان أن الصلة هي سبب هذا الجزاء ، والصلة فيها أمور ثلاثة تستدعي الاستنكار والعذاب الشديد:
الأمر الأول- الكفر ، وكفر أهل مكة هو الإشراك بالله تعالى بعبادة الأوثان .
الأمر الثاني- الصد عن سبيل الله تعالى بإيذاء المؤمنين ومحاربتهم ، ودعوة العرب إلى عدم الإيمان بالله وبرسوله .
الأمر الثالث- بصدهم عن المسجد الحرام ، ومنعهم من أداء المؤمنين الحج فيه ، ويظهر أن هذه الآية نزلت في فترة الحديبية ، لأن المسلمين حيل بينهم وبين الوصول إلى المسجد الحرام ، وهو للناس جميعا ، ولذا وصفه الله تعالى بالموصول بقوله:{ الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} ، أي أن هؤلاء الناس المصدون عن المسجد الحرام من يريد الحج إليه وقد جعله الله – الذي باركه وأكرمهم به – للناس جميعا ، وليس لقريش وحدها ، فهم فيه كغيرهم من الناس ، وإن كان الله تعالى كرمهم بأن جعل منهم سدنة البيت والقائمين عليه وعلى خدمته وعمارته ، وكلمة{ سواء} قرئت مفتوحة وتكون مفعولا لجعلناه وهي المفعول الثاني ، والأول الهاء ، وتكون{ للناس} متعلقة ب{ سواء} ، وقرئت مضمومة ، وتكون مبتدأ ، ويكون المعنى مستوفية العاكف والباد ، وتكون الجملة في مقام المفعول الثاني أو حال{[1524]} .
و{ العاكف} المقيم في مكة ، وعبر عنه بالعاكف إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون عاكفا عابدا ، لا أن يكون وثنيا مشركا ، صادا عنه مانعا له ، والبادي:المقيم في البادية ، وإذا كان المقيم ببادية يستوي مع المقيم في مكة حول البيت الحرام فأولى المتحضر المقيم في الحاضرة ، ولذا قالوا:إن البادي هو من يكون من غير أهل مكة سواء الحاضر فيها والبادي ، والتعبير بالمضارع في يصدون إشارة إلى استمرارهم على الصد عن سبيل الله .
وخبر"إن"محذوف ، دل عليه ما يجئ بعد ذلك من قوله:{ ومن يرد فيه بإلحاد} تقديره له عذاب شديد ، وقوله تعالى:{ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} ، أي إن الذي يريد فيه إلحادا وميلا عن الحق واحترام البيت وصيانته بظلم يرتكبه بالشرك والاعتداء على حرماته ، وصد الناس ، ومنعهم من الطواف يذيقه الله تعالى من عذاب أليم ينزل به في الدنيا بالحروب التي تهزمهم ، وفي الآخرة بالنار يذوقون حريقها .
وفي قوله تعالى:{ ومن يرد فيه بإلحاد} أمور بيانية نشير إليها:
الأمر الأول- في قوله{ فيه} الضمير يعود إلى المسجد الحرام ، أي يريد خروجا عن مبادئ الحق والإيمان متلبسا بإلحاد ، و{ من} شرطية ، وجواب الشرط{ نذقه} إلى أخره ، و"الباء"للملابسة أو الملاصقة أو تقوية التعدية ، والإلحاد الميل عن الحق والانحراف إلى الباطل ، يقال ألحد إلى كذا:مال إليه ، ويقول الأصفهاني في مفرداته:الإلحاد ضربان:إلحاد إلى الشرك بالله و إلحاد إلى الشرك بالأسباب ، فالأول ينافي الإيمان ويبطله ، والثاني يوهن عراه ولا يبطله ، ومن هذا النحو قوله تعالى:{ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} .
ونرى أن الإلحاد هنا من النوع الذي يبطل الإيمان ، فهو ميل وانحراف إلى عبادة غير الله تعالى ، وقد فعل ذلك المشركون في المسجد الحرام ، فقد كانت الأوثان مادة ذلك الإلحاد في البيت وموضوعة على الكعبة نفسها .
الأمر الثاني- أن قوله تعالى:{ بظلم} ، بيان لنوع الإلحاد ، وهو الظلم ، والشرك أفظع الظلم وأشده ، ولقد قال تعالى:{. . .إن الشرك لظلم عظيم 13} ( لقمان ) وإن اللفظ المطلق إذا لم يفيد انصرف إلى أكمل أفراده ، فهو هنا انصرف إلى الشرك وكان من المشركين مع الشرك الذي هو ألأشد الظلم ظلمات أخرى فكان فيهم ظلم الضعفاء وإيذاؤهم ، وكان فيهم ظلم الاعتداء المتكرر منهم على المؤمنين ، وكان فيهم ظلم الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان فيهم ظلم الغدر والخيانة ونكث العهود ، وكانوا لا يرقبون في المؤمنين إلا ولا ذمة .
الأمر الثالث- في قوله تعالى:{ نذقه من عذاب أليم} ،{ من} هنا بيانية أو ابتدائية ، أي نذقه عذابا أليما ، أو نذقه ذوقا مرا مأخوذا من عذاب أليم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .