يقول تعالى منكرا على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام ، وقضاء مناسكهم فيه ، ودعواهم أنهم أولياؤه:( وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ الأنفال:34] .
وفي هذه الآية دليل [ على] أنها مدنية ، كما قال في سورة "البقرة ":( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ) [ البقرة:217] ، وقال:هاهنا:( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ) أي:ومن صفتهم مع كفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، أي:ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر ، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى:( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد:28] أي:ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله .
وقوله:( الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ) [ أي:يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وقد جعله الله شرعا سواء ، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه ، ( سواء العاكف فيه والباد )] ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله:( سواء العاكف فيه والباد ) قال:ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .
وقال مجاهد [ في قوله]:( سواء العاكف فيه والباد ):أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل . وكذا قال أبو صالح ، وعبد الرحمن بن سابط ، وعبد الرحمن بن زيد [ بن أسلم] .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة:سواء فيه أهله وغير أهله .
وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق ابن راهويه بمسجد الخيف ، وأحمد بن حنبل حاضر أيضا ، فذهب الشافعي ، رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ، واحتج بحديث الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد قال:قلت:يا رسول الله ، أتنزل غدا في دارك بمكة؟ فقال:"وهل ترك لنا عقيل من رباع ". ثم قال:"لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر ". وهذا الحديث مخرج في الصحيحين [ وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة ، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم . وبه قال طاوس ، وعمرو بن دينار .
وذهب إسحاق ابن راهويه إلى أنها تورث ولا تؤجر . وهو مذهب طائفة من السلف ، ونص عليه مجاهد وعطاء ، واحتج إسحاق ابن راهويه بما رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عيسى بن يونس ، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن علقمة بن نضلة قال:توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة إلا] السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن
وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال:لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها .
وقال أيضا عن ابن جريج:كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى أن تبوب دور مكة; لأن ينزل الحاج في عرصاتها ، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال:أنظرني يا أمير المؤمنين ، إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال:فذلك إذا .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن منصور ، عن مجاهد; أن عمر بن الخطاب قال:يا أهل مكة ، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء .
قال:وأخبرنا معمر ، عمن سمع عطاء يقول [ في قوله]:( سواء العاكف فيه والباد ) ، قال:ينزلون حيث شاءوا .
وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا .
"وتوسط الإمام أحمد [ فيما نقله صالح ابنه] فقال:تملك وتورث ولا تؤجر ، جمعا بين الأدلة ، والله أعلم .
وقوله:( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال بعض المفسرين من أهل العربية:الباء هاهنا زائدة ، كقوله:( تنبت بالدهن ) [ المؤمنون:20] أي:تنبت الدهن ، وكذا قوله:( ومن يرد فيه بإلحاد ) تقديره إلحادا ، وكما قال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا بين المراجل ، والصريح الأجرد
وقال الآخر:
بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى "يهم "، ولهذا عداه بالباء ، فقال:( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) أي:يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار .
وقوله:( بظلم ) أي:عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول ، كما قال ابن جريج ، عن ابن عباس:هو [ التعمد] .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:( بظلم ) بشرك .
وقال مجاهد:أن يعبد فيه غير الله . وكذا قال قتادة ، وغير واحد .
وقال العوفي ، عن ابن عباس:( بظلم ) هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فعل ذلك فقد وجب [ له] العذاب الأليم .
وقال مجاهد:( بظلم ):يعمل فيه عملا سيئا .
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر ، إذا كان عازما عليه ، وإن لم يوقعه ، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره:
حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة ، عن السدي:أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله - يعني ابن مسعود - في قوله:( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال:لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم ، وهو بعدن أبين ، أذاقه الله من العذاب الأليم .
قال شعبة:هو رفعه لنا ، وأنا لا أرفعه لكم . قال يزيد:هو قد رفعه ، ورواه أحمد ، عن يزيد بن هارون ، به .
[ قلت:هذا الإسناد] صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه; ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود . وكذلك رواه أسباط ، وسفيان الثوري ، عن السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود موقوفا ، والله أعلم .
وقال الثوري ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله قال:ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعدن أبين هم أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم . وكذا قال الضحاك بن مزاحم .
وقال سفيان [ الثوري] ، عن منصور ، عن مجاهد "إلحاد فيه "، لا والله ، وبلى والله . وروي عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، مثله .
وقال سعيد بن جبير:شتم الخادم ظلم فما فوقه .
وقال سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس في قوله:( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال:تجارة الأمير فيه .
وعن ابن عمر:بيع الطعام [ بمكة] إلحاد .
وقال حبيب بن أبي ثابت:( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال:المحتكر بمكة . وكذا قال غير واحد .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري ، أنبأنا أبو عاصم ، عن جعفر بن يحيى ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، حدثني موسى بن باذان ، عن يعلى بن أمية; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"احتكار الطعام بمكة إلحاد ".
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير قال:قال ابن عباس في قول الله:( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال:نزلت في عبد الله بن أنيس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين ، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل الأنصاري ، ثم ارتد عن الإسلام ، وهرب إلى مكة ، فنزلت فيه:( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) يعني:من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام .
وهذه الآثار ، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ، ولكن هو أعم من ذلك ، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرا أبابيل ( ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول ) [ الفيل:4 ، 5] ، أي:دمرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء; ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يغزو هذا البيت جيش ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم "الحديث .
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن كناسة ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، عن أبيه قال:أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير ، فقال:يا ابن الزبير ، إياك والإلحاد في حرم الله ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنه سيلحد فيه رجل من قريش ، لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت "، فانظر لا تكن هو .
وقال أيضا [ في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص]:حدثنا هاشم ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، حدثنا سعيد بن عمرو قال:أتى عبد الله بن عمرو ابن الزبير ، وهو جالس في الحجر فقال:يا بن الزبير ، إياك والإلحاد في الحرم ، فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يحلها ويحل به رجل من قريش ، ولو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها ". قال:فانظر لا تكن هو .
ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين .