التّفسير
الذين يصدّون عن بيت الله الحرام !
تحدّثت الآيات السابقة عن عامّة الكفّار ،وهذه الآية تشير إلى مجموعة خاصة منهم باءت بمخالفات وذنوب عظيمة ،ذات علاقة بالمسجد الحرام ومراسم الحجّ العظيم .
تبدأ هذه الآية ب ( إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله ) وكذلك يصدّون ويمنعون المؤمنين عن مركز التوحيد العظيم: ( والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد ) أي سواءً المقيمون فيه والذين يقصدونه من مكان بعيد .( ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) أي كلّ من أراد الإنحراف في هذه الأرض المقدّسة عن الحقّ ومارس الظلم والجور أذقناه عذاباً أليماً .
وهذه الفئة من الكفّار ترتكب ثلاث جرائم كبيرة ،إضافةً إلى إنكارها الحقّ ،وجرائمها هي:
1صدّ الناس عن سبيل الله والإيمان به والطاعة له .
2صدّهم عن حجّ بيت الله الحرام ،وتوهم أنّ لهم امتيازاً عن الآخرين .
3ممارستهم للظلم وإرتكابهم الإثم في هذه الأرض المقدّسة ،والله يعاقب هؤلاء بعذاب أليم .
ملاحظات
1جاء «كفر » هؤلاء في هذه الآية بصيغة الفعل الماضي ،وجاء «الصدّ » عن سبيل الله بصيغة الفعل المضارع ،إشارةً إلى كونهم كفّاراً من قبل .وإلى أنّ تضليلهم الناس هو عملهم الدائم .وبتعبير آخر: تشير العبارة الأُولى إلى اعتقادهم الباطل ،وهو أمر ثابت ،بينما تشير العبارة الثّانية إلى عملهم الدائم وهو الصدّ عن سبيل الله .
2يقصد بالصدّ عن سبيل الله كلّ عمل يحول دون إيمان الناس ودون قيامهم بالأعمال الصالحة ،وهذا المفهوم الواسع يشمل البرامج الإعلامية والعلمية التي تتوخّى التضليل عن السبيل السوي والأعمال الصالحة .
3إنّ جميع الناس في هذا المكان العبادي سواء .
وقد وردت لعبارة ( سواء العاكف فيه والباد ) عند المفسّرين معان مختلفة ،فذهب بعضهم أنّ المراد هو أنّ الناس سواسية في هذا المكان الذي يوحّد فيه الله ،وليس لأحد الحقّ أن يُعرقل حجّ الناس وعبادتهم بجوار بيت الله الحرام .
وأعطى آخرون لهذه العبارة معنى أوسع ،وهو أنّ الناس ليسوا سواسية فقط في أداء الشعائر وإنّما هم كذلك في الإستفادة من الأرض والبيوت المحيطة بالكعبة لإستراحتهم وسائر حاجاتهم الأخرى ،لهذا حرّم بعض الفقهاء بيع وشراء وإيجار البيوت في مكّة المكرمة ،ويتّخذون الآية السابقة دليلا على ما يرون .
كما ذكرت الأحاديث الإسلامية عدم جواز الحيلولة دون سكنى حجّاج بيت الله الحرام في منازل مكّة ،حتّى حرّمه قوم ،ورآه آخرون مكروهاً .
جاء في رسالة بعث بها الإمام علي ( عليه السلام ) إلى قثم بن العبّاس والي مكّة آنذاك: «وامر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجراً ،فإنّ الله سبحانه يقول: ( سواء العاكف فيه والباد ) فالعاكف المقيم به ،والبادي الذي يحجّ إليه من غير أهله »{[2609]} .
وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في تفسير هذه الآية: «كانت مكّة ليست على شيء منها باب ،وكان أوّل من علّق على بابه المصراعين ،معاوية بن أبي سفيان ،وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئاً من الدور ومنازلها » .
وذكرت أحاديث أنّ لحجّاج بيت الله الحقّ في استخدام البيوت المحيطة بالكعبة ،ويرتبط هذا الحكم بشكل كبير ببحثنا المقبل ،وهو: هل يقصد بالمسجد الحرام في هذه الآية المسجد ذاته أو يشمل مكّة كلّها ؟
فإذا سلّمنا بالرأي الأوّل فإنّ الآية السابقة لا تشمل منازل مكّة ،وعلى فرض شمولها فإنّ قضيّة حرمة بيع وشراء وإيجار منازل مكّة بالنسبة للحجّاج تكون مطروحة للبحث ،إلاّ أنّ هذه القضيّة ليست مؤكّدة في المصادر الفقهيّة والأحاديث والتفاسير ،فإنّ الحكم بحرمتها أمر صعب .وما أجدر أهل مكّة بأن يقدّموا جميع التسهيلات الممكنة لحجّاج بيت الله الحرام !وألاّ يضعوا لأنفسهم امتيازات على الحجّاج حتّى بالنسبة لمنازلهم ،ويبدو أنّ الأحاديث التي وردت في نهج البلاغة وغيره تشير إلى هذه المسألة .
والقول بالتحريم لا يحظى بتأييد واسع من فقهاء الشيعة والسنّة ( للإطّلاع أوسع بهذا الصدد يراجع المجلّد العشرين من جواهر الكلام الصفحة الثامنة والأربعين وما بعدها في أحكام منى ) .
ولا يحقّ لأحد باعتبار كونه حامي حرم اللهأو أيّة صفة أُخرىمضايقة حجّاج بيت الله ،أو اتّخاذ الحجّ والبيت قاعدة لإعلامه وتنفيذ مآربه .
4ما الذي تعنيه هذه الآية بالمسجد الحرام ؟
قال بعض: تعني الكعبة وجميع أجزاء المسجد الحرام .وقال غيره: تشير إلى جميع أنحاء مكّة ،بدلالة الآية الأُولى من سورة الإسراء التي تخصّ معراج النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ومضمون هذه الآية أنّ بداية المعراج كانت من المسجد الحرام ،في الوقت الذي ذكر المؤرخّون أنّ المعراج بدأ من منزل خديجة أو شعب أبي طالب أو من منزل أم هانىء ،وعلى هذا فإنّ المقصود من المسجد الحرام مكّة كلّها{[2610]} .
ولكن بداية معراج النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليست بالتأكيد من خارج المسجد الحرام ،ويحتمل أن تكون من المسجد ذاته ،فلا دليل لدينا للإعراض عن ظاهر الآية ،وعليه فهذه الآية تقصد المسجد الحرام ذاته .
وإذا توصّلنا من مطالعة الأحاديث السابقة إلى أنّها تستدلّ بهذه الآية على مساواة الناس في منازل مكّة ،لأنّ ذلك الحكم استحبابي ،فلا مانع من توسعة موضوعه على ما يناسبه ( فتأمّلوا جيداً ) .
5ماذا تعني عبارة ( إلحاد بظلم ) ؟
تعني كلمة «الإلحاد » في اللغة الإنحراف عن حدّ الإعتدال ،ولهذا أطلقت على الحفرة المجاورة للقبر التي تقع خارج حدّ الوسط كلمة «لحد » .
وعلى هذا فإنّ عبارة ( إلحاد بظلم ) تعني الخارجين عن حدّ الإعتدال بممارسة الظلم ،فيرتكبون المخالفات في تلك الأرض المقدّسة ،وقد حصر البعض مفهوم الظلم هنا بالشرك ،وقال آخرون: إنّه يعني إباحة المحرّمات ،وقال غيرهم: إنّ الظلم هنا ذو مدلول واسع يشمل كلّ ذنب وعمل حرام ،فيدخل فيه حتّى السبّ للأدنى منه ،وقالوا: إنّ ارتكاب أي ذنب في هذه الأرض المقدّسة له عقاب أشدّ .
وجاء في حديث للإمام الصادق ( عليه السلام ) جواباً على سؤال لأحد أصحابه حول هذه الآية: «كلّ ظلم يظلم الرجل نفسه بمكّة من سرقة أو ظلم أحد أو شيء من الظلم فإنّي أراه إلحاداً ،ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم »{[2611]} .
وقد رويت أحاديث أُخرى تتضمّن هذا المعنى ،وتنسجم مع ظاهر الآية .وعلى هذا يرى بعض الفقهاءبالنسبة لمن يرتكب الذنب في الحرمالمكّيوجوب التعزير أو عقاب آخر إضافة إلى الحدّ الذي نصّ عليه الشارع ،ويستدلّون على ذلك بعبارة ( نذقه من عذاب أليم ){[2612]} .
ويتّضح بذلك أنّ حصر هذه الآية بالنهي عن الإحتكار ،أو عدم الدخول إلى منطقة الحرم دون إحرام ،لم تكن غايتهم إلاّ بيان مصداق واضح لهذه الآية فقط ،وإلاّ فلا دليل لدينا على حصر مفهوم هذه الآية ذات الدلالات الواسعة .