قوله تعالى:{إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ( 25 )} روي أنها نزلت حين خرج النبي ( ص ) في غزوة الحديبية عام ست ،فصدّه المشركون عن دخول البيت ومنعوه فقاضاهم على العام المستقبل ،وقضى عمرته في مكانه ونحر هديه وحلق رأسه ورجع إلى المدينة{[3093]} .
وفي المراد بالمسجد الحرام قولان .أحدهما: أنه المسجد نفسه دون الحرم كله وهو ظاهر القرآن ؛لأنه لم يذكر غيره .وثانيهما: أنه الحرم كله ؛لأن المشركين صدوا رسول الله ( ص ) وأصحابه عنه عام الحديبية فنزل خارجا عنه في الحل وقد عيّرهم الله بذلك في قوله: ( وصدوكم عن المسجد الحرام ) .
قوله: ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) واو ( ويصدون ) للعطف .والتقدير: إن الكافرين والصادين .وقيل: الواو واو الحال ؛أي إن الذين كفروا صادين عن سبيل الله .وخبر ( إن ) مقدر .وتقديره: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله معذبون{[3094]} و ( العاكف ) ،معناه المقيم المواظب{[3095]} ( والباد ) يعني أهل البادية ومن يقدم عليهم ؛أي يستوي في تعظيم حرمة المسجد الحرام وفي قضاء النسك فيه ،الحاضر ،أو لذي يأتيه من البلاد الأخرى .فليس أحدهما بأحق فيه من الآخر .
وفي المراد بالتسوية قولان: أحدهما: التسوية في دور المسجد الحرام وفي منازله ؛إذ ليس المقيم فيها بأولى من الطارئ عليها .
ثانيهما: أنهما سواء في حق الحرمة والنسك .والظاهر عموم التسوية في ذلك كله وهو قول ابن عباس وعمر بن الخطاب وآخرين .وهو مذهب مالك ؛فقد روي أن عمر كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة حتى يدخلها الذي يقدم عليها فينزل حيث شاء .وقد روي عنه أيضا أنه نهى أن تغلق مكة زمن الحاج ،وأن الناس كانوا ينزلون منها حيث وجدوا فارغا ،حتى كانوا يضربون الفساطيط في جوف الدور .
وجملة ذلك: أن القادم له النزول حيث وجد فراغا ،وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى .
وهذا الخلاف أصله أن دور مكة في ملك لأربابها أم هي للناس جميعا .وهذا الأصل مبني على أن مكة هل فتحت عنوة أو صلحا ؛فقد قيل: إنها فتحت عنوة فتكون بذلك مغنومة .لكن النبي ( ص ) لم يقسمها ؛بل منّ على أهلها في أنفسهم فسموا الطلقاء .ومنّ عليهم في أموالهم وتركهم في منازلهم على أحوال من غير تغيير عليهم .وبذلك أقرّها لأهلها ولمن جاء بعدهم ؛فهي بذلك لا تباع ولا تكرى ،ومن سبق إلى موضع كان أولى به .وهذا قول الإمامين مالك وأبي حنيفة وقال به الأوزاعي .واحتجوا لذلك بما رواه عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله ( ص ) وأبو بكر وعمر وما تُدعى رباع{[3096]} مكة إلا السوائب ،من احتاج سكن ومن استغنى أسكن .وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها .وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان ينهى عن تبويب دور مكة ؛لأن ينزل الحاج في عرصاتها .فكان أول من بوّب داره سهيل بن عمرو فأرسل إليه عمر ابن الخطاب في ذلك فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري .قال: فلك ذلك إذا .
وذهب الإمام أحمد إلى الوسط من ذلك فقال: تملك الدور بمكة وتورث ولا تؤجر ؛جمعا بين الأدلة .
قوله: ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) الإلحاد في اللغة ،بمعنى الطعن والميل عن طريق القصد .والحد ،جار وظلم .وألحد في الحرم ،أي استحل حرمته وانتهكها{[3097]} .والباء حرف جر زائد .وتقديره: ومن يرد إلحاحا بظلم .والباء هذه للسببية .والمعنى: ومن يرد فيه إلحادا بسبب الظلم .والظلم ،هو وضع الشيء في غير موضعه ؛أي من يبتغ أن يفعل في الحرم من المعاصي والآثام عامدا ،قاصدا أنه ظلم ،كالشرك والقتل العمد وظلم الناس والإساءة الفاحشة إليهم ،إلى غير ذلك من وجوه المعاصي والخطايا ( نذقه من عذاب أليم ) جواب الشرط ؛أي من فعل ما ذكر من وجوه الإلحاد في المسجد الحرام ؛فقد وجب له العذاب الأليم .
على أن الجنايات تعظم على قدر عظم الزمان ،كالأشهر الحرم ،وعلى قدر عظم المكان ،كالبلد الحرام ،فتكون المعصية معصيتين: إحداهما ،بنفس الفعل المحظور .والثانية بإسقاط فضيلة الشهر الحرام أو البلد الحرام{[3098]} .