النكاح هو الحصن
كانت الآيات السابقة فيها ما يصون الأسرة في كيانها ، وما فيه صيانة النساء من قول السوء ، وأن تمس عفتهن بالأنظار الجارحة ، فأمر الرجال بغض البصر ، وأمر بأن تكون نظرات النساء غير مغرية لأهل السوء ، وألا يكون إبداء الزينة مغربا لأهل الدعارة والفساد ، وكل هذا كان لحماية النفوس من الشر ، وبعد ذلك بين الأمر الإيجابي الذي يصون المرأة ، وهو سبيل العفة ، وطريقها ، وهو النكاح ، فقال عز من قائل:{ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} .
أنكحوا أي زوجوا ، فالنكاح هو الزواج ، والإنكاح هو التزويج ، والخطاب للأولياء على النساء الذين لهم ولايتهم بقوله تعالى:{ الرجال قوامون على النساء . . . ( 34 )} [ النساء] ويصح أن يكون الخطاب للأمة في مجموعها بأن يسهلوا زواج الأيامى ، وتكون الأيامى شاملة للرجال والنساء ، ويكون الأمر بالنكاح هو الأمر بتسهيله وإشاعته ، وتمكين كل بالغ وبالغة ، فإنه حينئذ يعف النساء والرجال معا ، ويكون غض البصر في الطرقات والبيوت ، وألا يكون شيء يجر إلى الشر في المجتمع الإسلامي ، فيكون طاهرا متنزها ، لا يظهر فيه إلا الخير ، وتختفي المنكرات ونحن نميل إلى هذا التخريج .
والأيامى جمع أيّم ، وهو غير المتزوج من النساء والرجال ، وقال أهل اللغة الأيم في الأصل هو المرأة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:( الأيم أحق بنفسها من وليها ) سواء أكانت بكرا أم كانت ثيبا ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:( أيما امرأة تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا ، أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة ) ، وأشار بأصبعيه ، ولكنه على سبيل المجاز المشهور أطلق على الرجل ، وإن ذلك أوضح ، وأبين .
أمر الله تعالى في هذه الآية بتسهيل زواج ثلاثة:
أولهم الأيم من الرجال والنساء الأحرار ، وذلك بتسهيل الزواج ، وألا تكون عوائق من أعراف بين الناس تصعب الزواج من مهور مفحشة ، وجهاز مرهق مانع ، ومساكن مستعلية في السكن ، ويكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:( خير الزواج أيسره كلفة ) .
وثانيهم وثالثهم الصالحون من العباد والإماء ، فيزوج السيد عبده إن أردا العبد أن يتزوج ، ويكرهه على الزواج إن خشي عليه العنت ، أو أن يقع في الزنى إن لم يتزوج فإنه يكون الزواج فرضا ، والمسئول عن العبد هو مالكه فعليه أن يعفه ، ويمنعه من الزنى ، ولا طريق للمنع عنه إلا تزويجه ، فكان التزويج فرضا على المالك ؛ لأن الزواج فرض على العبد ، وعبر بالصالحين من عبادكم وإمائكم ، لأنهم الذين يرغبون في الصون والعفاف .
وكذلك الأمر بالنسبة للإماء إن خشي عليهن العنت يكون واجبا عليها أن تتزوج ، وهي لا تملك نفسها ، بل يملك الولاية عليها مالكها ، فيكون التزويج فرضا عليه ، فإن لم تره وأراده كان له أن يكرهها ، وقد أجمع الفقهاء على أن التزويج على الأمة ولاية إجبار لا اختيار لها فيها .
وعباد جمع عبد ، وإماء جمع أمة .
إذا كان واجبا على الجماعة أن تسهل الزواج وتشيعه لأنه سنة الإسلام ، فإنه لا يصح أن يحول الفقر منه بين الزواج ، فإن المال مال الله غاد ورائح ، ففقير اليوم قد يكون من بعد غنيا ، ولذا قال تعال:{ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي أن الله تعالى يعطي من يشاء ، ويغني من يشاء ،{ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الرحمة والعطاء ، عليم بمكان الحاجة وموضع العطاء .
وإن هذا النص يشمل الأحرار ، لأنه قد يكون فقيرا ، أما العبيد أو الإماء فلا مال يملكونه ، وقد يدخل فقراء الملاك في العموم أيضا .