ثم قال تعالى في علاج حال الفقراء ، فقال عز من قائل:
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} .
اللام لام الأمر ، و"يستعفف"السين والتاء للطلب ، والمعنى ليطلب العفة ولا يتجافى سبيلها والوصول إليها والحصول عليها ، إنما يسلك كل المسالك لطلبها ، فهي طلب للجهاد في العفة والحصول عليها{ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي مهيئات النكاح من مهر ونفقة ، ومسكن على آخر ما يكون سببا للنكاح أو تمهيدا له ، فالتعبير بالنكاح ذكر للمسبب وإرادة للسبب ، ومن لم يجد مهيئات النكاح لا يجد النكاح ، وأسباب الاستعفاف كثيرة منها ضبط النفس ، ومنها الصيام ، ومنها الانشغال بالعبادة وتلاوة القرآن ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ){[1569]} الباءة تكاليف الزواج التي يمكنه أن يبوء بها في هذه العقدة المباركة ، والصوم يتضمن معاني روحانية والتجرد من الملاذ والأهواء ، ويتضمن الصبر وضبط النفس ، وقرع الشهوات ، والوجاء قطع الشهوات ، ودفع سيطرتها ، فتكون الشهوة أمة ذلولا ، ولا تكون سيدا مطاعا ، تخضع له النفوس وتتطامن ، وتخنع .
وإن الاستعفاف يستمر حتى يغنيهم الله من فضله ، فهو يستمر ضابطا نفسه مسيطرا عليها ، حتى يغنيه الله من فضله أي بفضله ورحمته ، وهو ذو الفضل العظيم .
وإن هذا الاستعفاف للأحرار من الرجال الذين لا يملكون باءة النكاح ، فما حال الرجال العبيد الذين لا يملكون أسباب النكاح ، ولهم فيه رغبة ، ولا يزوجهم مواليهم ، فما الذي يستطيعونه ، شرع الله تعالى لهم المكاتبة وطالبهم بأدائها ، وأمر الموالي أن يجيبوهم ، فقال تعالى:{ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} .
{ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} ، كلام مستأنف له صلة بالكلام السابق ، و{ يبتغون} يطلبون راغبين متشددين في الطلب ، والكتاب مصدر كاتب يكاتب ، لأن مصدر فاعل ، فعال أو مفاعلة كقتال ومقاتلة ، وعناد ومعاندة ، فمعنى الكتاب المكاتبة ، أي إن طلبوا المكاتبة{ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} والفاء هي كالفاء الواقعة في جواب الشرط ، لأن الاسم الموصول ،{ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} في معنى فعل الشرط ، والمكاتبة اتفاق بين المالك والمملوك على أن يتركه حتى يحصل على قدر من المال يتفقان عليه ، فإن أنفذه وأداه عتق ، وقد شرع الله ذلك العقد تسهيلا لفك الرقاب من غير ضياع حق للمالك ، وتعليق الأمر بالمكاتبة على قوله:{ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} والخير هنا الأمانة والاستقامة والقدرة على السعي للحصول على مال المكاتبة ، وقال بعض الظاهرية وبعض الفقهاء:إن الأمر هنا{ فكاتبوهم} للوجوب بمقتضى ظاهر الأمر ، أي إن الأمر هنا للوجوب بمقتضى ظاهر اللفظ .
وإنه من الواجب أو المندوب أن يؤتيهم القادرون ما يستعينون به على فك رقابهم ، ولذا قال تعالى:{ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} أعطوهم من المال الذي أعطاكم الله تعالى ، ونسبة المال إلى الله تعالى فيه حث على الإعطاء ، لأنه بمال الله الذي جعلكم مستخلفين فيه ، فكان حقا عليكم بمقتضى هذا الاستخلاف أن تعطوه لعيال الله تعالى ، وهم الفقراء الأرقاء الذين يحتاجون ليفكوا رقبتهم ، وقد أوجب الله تعالى ذلك فجعله مصرفا من مصارف الزكاة ، وهو يصرف في الرقاب في قوله تعالى:{ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل . . . ( 60 )} [ التوبة] .
وقال الفقهاء:إن سهم الرقاب ينفق في معاونة المكاتبين حتى يسدوا ما عليهم ، وتسارع لهم الحرية .
وقد نهى سبحانه عن إكراه الإماء على البغاء ، وهو طلب المرأة للزنى ، وقد كان رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول عنده ست إماء كان يكرههن على البغاء ويأخذ أجورهن وهو سحت ؛ لأن مهر البغايا سحت ، وقد قال تعالى:{ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} الفتيات المراد بهن الإماء ، وعبر عنهن بالفتيات لنقتدي بالقرآن ، والنبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول:( لا تقل عبدي وأمتي بل قل فتاي وفتاتي ){[1570]} وللحض على عدم إكراههن على البغاء لأنهن فتياته ، فلا يسوغ إكراههن ، ولأن التعبير بالفتاة فيه إيماء إلى صغرهن ، وأنه مرغوب فيهن مبغي طلبهن ولسن عجائز يرغب عنهن ، وقوله تعالى:{ إن أردن تحصنا} ، مبالغة في اللوم والتأثيم ، والتحصن إرادة حصن العفة يتحصن به ، ولا يجعلن أنفسهن متاعا يستفرشه الرجال في حرام .
وليس معنى التعليق أنهن إذا كن يبغين البغاء يكرهن ، إنما الشرط لتحقيق معنى الإكراه ، فهو لا يكون إلا حيث تكون إرادة التحصن وهو توبيخ لمالك الأمة التي تفعل ، فهي الأمة تأبى أن تكون بغيا ، وهو الذي يريدها بغيا ، ويقول سبحانه:{ لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وعرض الحياة الدنيا هو المال من طريقه الرخيص الذي لا يرضاه ، وهو أدنى طريق وأحقره .
ثم يقول تعالى في بيان أن الله تعالى يعفو عن هؤلاء المكرهات ، ويكون إثم الإكراه على مواليهن ، فقال:{ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إن الله يغفر لهن هذا الذنب الذي كان بإكراه ، وقوله:{ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} للإشارة إلى أن الفعل الآثم يكون من بعد الإكراه وبسببه ، فالله يغفر ذلك الإثم ، لأنه غفور رحيم .