وقوله تعالى:( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) . هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجا [ بالتعفف] عن الحرام ، كما قال - عليه الصلاة والسلام -:"يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج . ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ".
وهذه الآية مطلقة ، والتي في سورة النساء أخص منها ، وهي قوله تعالى:( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) ، إلى أن قال:( ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم ) [ النساء:25] أي صبركم عن تزويج الإماء خير; لأن الولد يجيء رقيقا ، ( والله غفور رحيم ) .
قال عكرمة في قوله:( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا ) قال:هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي ، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها ، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السماوات [ والأرض] حتى يغنيه الله .
وقوله:( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب منهم عبيدهم الكتابة أن يكاتبوا ، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه . وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب ، لا أمر تحتم وإيجاب ، بل السيد مخير ، إذا طلب منه عبده الكتابة إن شاء كاتبه ، وإن شاء لم يكاتبه .
وقال الثوري ، عن جابر ، عن الشعبي:إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه .
وقال ابن وهب ، عن إسماعيل بن عياش ، عن رجل ، عن عطاء بن أبي رباح:إن يشأ يكاتبه وإن لم يشأ لم يكاتبه ، وكذا قال مقاتل بن حيان ، والحسن البصري .
وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك ، أن يجيبه إلى ما طلب; أخذا بظاهر هذا الأمر:
قال البخاري:وقال روح ، عن ابن جريج قلت لعطاء:[ أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال:ما أراه إلا واجبا . وقال عمرو بن دينار:قلت لعطاء] ، أتأثره عن أحد؟ قال:لا . ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره ، أن سيرين سأل أنسا المكاتبة - وكان كثير المال ، فأبى . فانطلق إلى عمر بن الخطاب فقال:كاتبه . فأبى ، فضربه بالدرة ، ويتلو عمر ، رضي الله عنه:( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) ، فكاتبه
هكذا ذكره البخاري تعليقا . ورواه عبد الرزاق:أخبرنا ابن جريج قال:قلت لعطاء:أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال:ما أراه إلا واجبا . وقال عمرو بن دينار ، قال:قلت لعطاء:أتأثره عن أحد؟ قال:لا
وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك:أن سيرين أراد أن يكاتبه ، فتلكأ عليه ، فقال له عمر:لتكاتبنه . إسناد صحيح .
وقال سعيد بن منصور:حدثنا هشيم بن جويبر ، عن الضحاك قال:هي عزمة .
وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي ، رحمه الله ، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب; لقوله عليه الصلاة والسلام:لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه ".
وقال ابن وهب:قال مالك:الأمر عندنا أن ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ، ولم أسمع أحدا من الأئمة أكره أحدا على أن يكاتب عبده . قال مالك:وإنما ذلك أمر من الله ، وإذن منه للناس ، وليس بواجب .
وكذا قال الثوري ، وأبو حنيفة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم . واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية .
وقوله:( إن علمتم فيهم خيرا ) ، قال بعضهم:أمانة . وقال بعضهم:صدقا . [ وقال بعضهم:مالا] وقال بعضهم:حيلة وكسبا .
وروى أبو داود في كتاب المراسيل ، عن يحيى بن أبي كثير قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) قال:"إن علمتم فيهم حرفة ، ولا ترسلوهم كلا على الناس ".
وقوله:( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) اختلف المفسرون فيه ، فقال قائلون:معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها ، ثم قال بعضهم:مقدار الربع . وقيل:الثلث . وقيل:النصف . وقيل:جزء من الكتابة من غير واحد .
وقال آخرون:بل المراد من قوله:( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكوات . وهذا قول الحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وأبيه ، ومقاتل بن حيان . واختاره ابن جرير .
وقال إبراهيم النخعي في قوله:( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) قال:حث الناس عليه مولاه وغيره . وكذلك قال بريدة بن الحصيب الأسلمي ، وقتادة .
وقال ابن عباس:أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب . وقد تقدم في الحديث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ثلاثة حق على الله عونهم ":فذكر منهم المكاتب يريد الأداء ، والقول الأول أشهر .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا وكيع ، عن ابن شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن عمر; أنه كاتب عبدا له ، يكنى أبا أمية ، فجاء بنجمه حين حل ، فقال:يا أبا أمية ، اذهب فاستعن به في مكاتبتك . قال:يا أمير المؤمنين ، لو تركته حتى يكون من آخر نجم؟ قال:أخاف ألا أدرك ذلك . ثم قرأ:( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) قال عكرمة:كان أول نجم أدي في الإسلام .
وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال:كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه ، مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته . ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته ، وضع عنه ما أحب .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) قال:يعني:ضعوا عنهم من مكاتبتهم . وكذلك قال مجاهد ، وعطاء ، والقاسم بن أبي بزة ، وعبد الكريم بن مالك الجزري ، والسدي .
وقال محمد بن سيرين في قوله:( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ):كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته .
وقال ابن أبي حاتم:أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ ، أخبرنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء بن السائب:أن عبد الله بن جندب أخبره ، عن علي ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ربع الكتابة ".
وهذا حديث غريب ، ورفعه منكر ، والأشبه أنه موقوف على علي ، رضي الله عنه ، كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي ، رحمه الله .
وقوله:( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ) الآية:كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة ، أرسلها تزني ، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت . فلما جاء الإسلام ، نهى الله المسلمين عن ذلك .
وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة - فيما ذكره غير واحد من المفسرين ، من السلف والخلف - في شأن عبد الله بن أبي بن سلول [ المنافق] فإنه كان له إماء ، فكان يكرههن على البغاء طلبا لخراجهن ، ورغبة في أولادهن ، ورئاسة منه فيما يزعم [ قبحه الله ولعنه]
[ ذكر الآثار الواردة في ذلك]
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ، رحمه الله ، في مسنده:حدثنا أحمد بن داود الواسطي ، حدثنا أبو عمرو اللخمي - يعني:محمد بن الحجاج - حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري قال:كانت جارية لعبد الله بن أبي بن سلول ، يقال لها:معاذة ، يكرهها على الزنى ، فلما جاء الإسلام نزلت:( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) إلى قوله:( فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم )
وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر في هذه الآية:( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) قال:نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها:مسيكة ، كان يكرهها على الفجور - وكانت لا بأس بها - فتأبى . فأنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية إلى قوله ( ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) .
وروى النسائي ، من حديث ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر نحوه
وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا علي بن سعيد ، حدثنا الأعمش ، حدثني أبو سفيان ، عن جابر قال:كان لعبد الله بن أبي بن سلول جارية يقال لها:مسيكة ، وكان يكرهها على البغاء ، فأنزل الله:( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) ، إلى قوله:( ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) .
صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع ، فدل على بطلان قول من قال:"لم يسمع منه ، إنما هو صحيفة "حكاه البزار .
قال أبو داود الطيالسي ، عن سليمان بن معاذ ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس; أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية ، فولدت أولادا من الزنى ، فقال لها:ما لك لا تزنين؟ قالت لا والله لا أزني . فضربها ، فأنزل الله عز وجل:( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا )
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن الزهري:أن رجلا من قريش أسر يوم بدر ، وكان عند عبد الله بن أبي أسيرا ، وكانت لعبد الله بن أبي جارية يقال لها:معاذة ، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها ، وكانت مسلمة . وكانت تمتنع منه لإسلامها ، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها ، رجاء أن تحمل للقرشي ، فيطلب فداء ولده ، فقال تبارك وتعالى:( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا )
وقال السدي:أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، وكانت له جارية تدعى معاذة ، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ، إرادة الثواب منه والكرامة له . فأقبلت الجارية إلى أبي بكر ، رضي الله عنه فشكت إليه ذلك ، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره بقبضها . فصاح عبد الله بن أبي:من يعذرني من محمد ، يغلبنا على مملوكتنا؟ فأنزل الله فيهم هذا .
وقال مقاتل بن حيان:بلغنا - والله أعلم - أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما ، إحداهما اسمها مسيكة ، وكانت للأنصاري ، وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي ، وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة ، فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرتا ذلك له ، فأنزل الله في ذلك ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) يعني:الزنى .
وقوله:( إن أردن تحصنا ) هذا خرج مخرج الغالب ، فلا مفهوم له . وقوله:( لتبتغوا عرض [ الحياة] الدنيا ) أي:من خراجهن ومهورهن وأولادهن . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن كسب الحجام ، ومهر البغي وحلوان الكاهن - وفي رواية:"مهر البغي خبيث ، وكسب الحجام خبيث ، وثمن الكلب خبيث "
وقوله:( ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) [ أي:لهن ، كما تقدم في الحديث عن جابر .
وقال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس:فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم] وإثمهن على من أكرههن:وكذا قال مجاهد ، وعطاء الخراساني ، والأعمش ، وقتادة .
وقال أبو عبيد:حدثني إسحاق الأزرق ، عن عوف ، عن الحسن في هذه الآية:( فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) قال:لهن والله . لهن والله .
وعن الزهري قال:غفور لهن ما أكرهن عليه .
وعن زيد بن أسلم قال:غفور رحيم للمكرهات .
حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله ، حدثني ابن لهيعة ، حدثني عطاء ، عن سعيد بن جبير قال:في قراءة عبد الله بن مسعود:"فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم "وإثمهن على من أكرههن .
وفي الحديث المرفوع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ".