قوله: ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) هذا الخطاب من الله لمن يملك أمر نفسه وليس لمن زمامه بيد غيره .ويستعفف أي يطلب العفة .والله جل وعلا يأمر كل من تعذر عليه النكاح لعدم المال أن يتعفف عن الحرام وهو قوله: ( لا يجدون نكاحا ) أي لا يجدون طولا يقدرون به أن يتزوجوا ( حتى يغنيهم الله من فضله ) أي بالقدرة على النكاح .أما من تاقت نفسه للزواج وهو يملك القدرة على ذلك فإنه يستحب له أن يتزوج إلا أن يخشى الوقوع في العنت وهو الزنا .فإن خشي ذلك صار الزواج في حقه واجبا .أما إذا لم يجد طولا ،وهو القدرة المالية على الزواج فعليه حينئذ بالاستعفاف ويستعين على مصابرة نفسه بالصوم فهو له وجاء .
قوله: ( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) الذين في موضع رفع مبتدأ .وخبره محذوف ،وتقديره: فيما يتلى عليكم الذين يبتغون الكتاب{[3261]} والذين ملكت أيمانكم يعني العبيد .فإن طلبوا منكم المكاتبة فإن المستحب أن تكاتبوهم .وقد نزلت الآية في غلام لحويطب بن عبد العزى واسمه صبح .طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى فأنزل الله الآية ،فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا فأداها ،وقتل بحنين في الحرب{[3262]} .
والمقصود أن الله أمر المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك وطلب المملوك منه الكتابة وعلم منه سيده خيرا .والمكاتبة معناها في الشرع أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه إليه منجما ( مفرقا ) عليه فإذا أداه صار حرا .
واختلفوا في حكم الأمر بالمكاتبة .فقد قيل: الأمر للإرشاد والاستحباب لا للإيجاب والحتم .وقيل: للوجوب .فعلى السيد أن يكاتبه إن طلب منه المكاتبة .
قوله: ( إن علمتم فيهم خيرا ) اختلفوا في المراد بالخير .فقد قيل: المراد به الأمانة .وقيل: الصدق .وقيل: الحرفة .وقيل: القدرة على الكسب كيلا يصبحوا عالة يتكففون الناس .
ومثل هذا التشريع لمسألة الرق والرقيق ،كان واحدا من جملة الأحكام التي قررها الإسلام لتحرير العبيد وإنهاء هذا النظام برمته ،ومن أساسه .
ولقد قرر الإسلام كثيرا من الأحكام في المسألة ليصير الناس كلهم أحرارا .وذلك بمختلف الأسباب والأساليب الشرعية المعروفة في هذا الدين .منها: إيجاب العتق والتحرير على سبيل التكفير عن بعض الخطايا والمخالفات الشرعية .ومنها: التحريض على العتق والترغيب فيه بشدة طلبا للأجر من الله وابتغاء لرضوانه .ومنها: سدّ المؤديات والأسباب التي تفضي إلى الاسترقاق كبيع الأحرار رغبة في المال .وكذلك الدين فإن عجز المدين استرقه الدائن .لكن ذلك بات في الإسلام محظورا ،ومستهجنا .فما يباع الأحرار ولا ينقلبون إلى عبيد البتة .
وكذا الدين فإنه لا مساغ للدائن أن يشتري بدينه حرية المدين ،فيسترقّه استرقاقا بسبب عجزه عن أداء دينه .وإنما يلزمه إمهاله حتى يتيسر له الأداء .وهو قوله تعالى: ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) .
فلا مجال بعد ذلك لمغرض متربص دساس أن يغمز بالإسلام على أنه لم يحرم الرق .وقد علم كل ذي علم أن الأديان والشرائع والفلسفات والأعراف كافة والتي سبقت الإسلام قد قررت نظام الرقيق واستبقته على حاله ليظل مستمرا مطردا .لكن الإسلام وحده من بين الأديان والعقائد والقوانين جميعا ،قد شرع تحرير العبيد بأسلوبه المتكامل الحكيم .
وذلك من ثلاثة أبواب .وهي: باب الترغيب والتحضيض ،وباب الإلزام والإيجاب .وباب الصد وإغلاق الأسباب والمنافذ .
قوله: ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) يأمر الله أصحاب العبيد أن يعينوهم في مال الكتابة ليتمكنوا من عتق أنفسهم .وفي حقيقة المخاطبين في هذه الآية خلاف .وثمة أقوال ثلاثة في ذلك:
القول الأول: إنهم السادة وعليهم أن يحطوا عن المكاتبين شيئا من مال الكتابة .وقد قيل: يحطون عنهم ربع الكتابة .وقيل: ثلثها .وقيل: عشرها .ويجبر السيد على هذا الإيتاء ،ويحكم به الحاكم على الورثة إذا مات السيد .وهو قول الشافعي ودليل ذلك مطلق الأمر في قوله: ( وآتوهم ) وقيل: هذا الأمر على الندب وليس الوجوب وهو قول الإمام مالك .
القول الثاني: المخاطب في الآية سائر الناس فهم مكلفون بالتصدق على المكاتبين وأن يعينوهم في فكاك رقابهم .
القول الثالث: الخطاب للولاة فهم مكلفون بإعطاء المكاتبين نصيبهم من مال الصدقة .وهو المراد بقوله تعالى في آية الصدقات: ( وفي الرقاب ) .
قوله: ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ) كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني طلبا للمال يأخذه منها .ولما جاء الإسلام نهى المؤمنين عن ذلك فإنه فاحشة وقذر وفسق .فضلا عن موات الهمة وخواء المروءة والضمير جريا وراء المال بأقذر الأساليب .
وذكر في سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن أبي ابن سلول ،وهو رأس المنافقين ،كان له إماء وكان يكرههن على البغاء ،أي الزنا طلبا لخراجهن ورغبة في أولادهن وفي صحيح مسلم عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مُسيكة وأخرى يقال لها أميمة .فكان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى النبي ( ص ) فأنزل الله عز وجل ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) .
قوله: ( إن أردن تحصنا ) أي أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يمكن أن يكون السيد مكرها لها أو أن إكراهه لها متصور مادامت هي ممتنعة ،وبذلك نهى الله عن هذا الإكراه .أما إذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يُطلب من السيد عدم إكراهها .أي إذا كانت راغبة في الزنا لم يتصور الإكراه .
قال ابن كثير في تأويل قوله: ( إن أردن تحصنا ): هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له .لأن الغالب من عرف الجاهليين إكراه فتياتهم على الزنا طلبا للمال .فلا يعتبر مفهوم المخالفة هنا .وبذلك لا يصح التعلق بشيء من دليل الخطاب أو مفهوم المخالفة ليقال بجواز الإكراه على البغاء إذا لم يردن التحصن{[3263]} .
قوله: ( ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) أي من يقهرهن على الزنا طلبا للكسب فإن الله يغفر لهن .وإنما إثمهن على من أكرههن ،وألجأهن لفعل الفاحشة .