وقد ذكر الله تعالى أولا غض البصر للرجال ثم ذكر سبحانه أمره للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يطالب المؤمنات بغض البصر أيضا ، كما طالب المؤمنين فقال عز من قائل:
{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} .
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمؤمنات كما قال للمؤمنين{ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} بألا يمعن النظر في الرجال فإن ذلك يغريهن بالفتنة ، كما يغري الرجال الإمعان في النظر إليهن ، وقد روى في بعض الأخبار أن محمدا صلى الله عليه وسلم سأل فاطمة ابنته خير نساء المؤمنين:ما عفة المرأة ؟ قالت:ألا ترى رجلا وألا يراها رجل{[1567]} ، وليس معنى ذلك إلا أن تغض بصرها عند رؤية الرجال ، وإن نظرات النساء الممعنة فيهم تغري الرجال وتغريها ، إذا كان فيمن تنظر إليه ما يحببه للنساء ،{ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} بسترها فلا تبدو ، وبمنعها مما لا يحل ، وحفظها من الأمراض الخبيثة التي تفسد النسل والجسم . وقال تعالى:{ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} بأن يتبرجن ، ويظهرن في حلية تغرى ، وقد قال تعالى في معنى هذا:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 59 )} [ الأحزاب] .
واستثنى من النهي عن إبداء ما تظهر منها من غير قصد إلى إظهارها:{ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} من غير قصد الإعلان عن جمالها ، وقالوا:إن الوجه والكفين ظهورهما مقبول في الصلاح لا يمنع صلاحها فيكون ظهورها في الحياة العامة ليس من إبداء الزينة المحرم ، وقال ابن عطية من فقهاء المالكية "يظهر لي بحكم ألفاظ الآية بأن المرأة مأمورة بأن لا تبدي ، وأن نجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن"والخلاصة أن الممنوع ما تبديه المرأة من زينة لتفلت الأنظار إلى محاسنها ، ومفاتنها ، فيكون ذلك إغراء للرجال ، أما ما ظهر منها من زينة من غير محاولة إبداء له إغراء ، وتبرزا للرجال فإنه لا بأس به .
{ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} الجيوب فتحات الصدر التي تبدو منه أجزاء من الجسم ، وهذه من العورة ، والخمر جمع خمار ،{ وليضربن} أي ليضعن الخمر على هذه الجيوب التي ترى منها الصدور ، فيستتر ذلك الجزاء من عورة المرأة ، لأن عورة المرأة الحرة كل جسمها ، ومن النساء في هذه الأيام من يبدين بعض أجسامهن على أنه من الزينة التي تغري الرجال .
هذا أمر عام للنساء بألا يبدين شيئا من الزينة إلا الذي يظهر في ذاته ، لأن منع ظهوره فيه ضيق وحرج ، وما جعل عليكم في الدين من حرج .
وقد استثنى سبحانه وتعالى المحارم الذين يخالطون المرأة من إبداء الزينة أمامهم ، لأن هؤلاء محرمون عليها ، ولأنها لو منعت الزينة عن رؤيتهم تكون هي في حرج ، وهي وزوجها .
وأول هؤلاء بعولتهن ، فإن إبداء الزينة لهم من المستحسن من غير استهجان فإن الرغبة في زوج تعفه ، وتبعده عن الرذيلة .
الطائفة الثانية آباؤهن ، فإنها قطعة منه ، وهو رحم محرم منها ، وزينتها تسره ، ولا تضره ، ولا تغريه .
الطائفة الثالثة:آباء بعولتهن فإن أبا الزوج محرم لها ، ولا يغرى بامرأة ابنه إلا لئيم ، ومن يخرج عن الفطرة السليمة .
الطائفة الرابعة:أبناؤهن فإنهم قطعة منها ، ولا يغرى بأمه إلا خبيث النفس .
الطائفة الخامسة:أبناء بعولتهن ، فإنه ربيبها كابنها .
الطائفة السادسة:إخوانهن ، وبنو إخوانهن .
الطائفة السابعة:أخواتهن ، وبنو أخواتهن .
الطائفة الثامنة:نساؤهن . أي نساء المؤمنات فإنه يجوز إبداء الزينة أمامهن .
الطائفة التاسعة:أو ما ملكت أيمانهن ، "ما"تشمل ما ملكت اليمين من العبيد والإماء ، ولكن هنا المختص مما ملكت اليمين الذين تبدي المرأة لهم زينتها الإماء ، لأنه لا يصح أن تبدي زينتهن أمام الرجال ، وعلى ذلك أكثر فقهاء الأمصار ، وروى غير ذلك عن بعض فقهاء الصحابة والتابعين ، وعندي ألا يبدين زينتهن للعبيد ، فإنهم رجال يشتهون ، وليس عندهم من الكرامة ما يحملهم على التعفف ، ولعل الدين ليس له تأثير قوي عند أكثرهم ، ومن العبيد من يكون ذا جمال تشتهيه النساء ، وقد كان بعض النساء في عهد الإمام عمررضي الله عنهمن تأولن آية سورة النساء في قوله تعالى:{ أو ما ملكت أيمانكم . . . ( 3 )} [ النساء] ، فملكت نفسها عبدها من مقايسة على الرجال ، وقد منعها عمر ، وروى أنه عزرها بمنع زواجها من الأحرار .
لهذا نرى أن قوله تعالى:{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} الظاهر من تخصيصها بالنساء أما العبيد الرجال ، فهن وبقية الرجال على سواء في المنع من ألا يبدين زينتهن لهم ، صونا للبيوت ولكرامة النساء ، ولحرمات البيوت الطاهرات .
الطائفة العاشرة:ما ذكرها سبحانه وتعالى بقوله:{ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} .
{ الإربة} معناها الحاجة إلى النكاح ، وقد اشترط فيهم أن يكونوا تابعين ، وألا يكونوا مشتهين للنساء ، إما لأنه ثبت أنه عنين ، أو شيخ فان قد انتهى أمد شهوته ، أو خصي أو مجبوب ، وهو تابع في البيوت يؤاكل النساء ويخالطهن ، وفي إبعاده حرج لهم ولهن .
وفي الحق:إن الآية ذكرت الوصف ، ولم تذكر النوع ، فكل من لا يكون له أرب أو شهوة كالشيخ الفاني القاعد في البيت قابعا ، وثبت أنه لا أرب له في النساء ، ولا يشتهي منهن حتى النظر ، فإنه في موضع الاستثناء .
وقد ألحق بهؤلاء غير أولي الإربة المخنثين من الرجال الذين كانوا يخدمون في البيوت في المدينة ، ويطلعن على عورات النساء ، ويبدي النساء زينتهن أمامهم ، وشك النبي صلى الله عليه وسلم لسماعه أحدهم يصف المرأة قائلا:تقبل بأربع ، وتدبر بثمان . وهذا وصف لا يقوله إلا من يمعن النظر ، وفي نظرته شهوة ، فأمر بإبعاد المخنثين عن البيوت{[1568]} ، والأمر في معرفة غير أولي الإربة إلى الملاحظة واحترام النفس والكرامة .
الطائفة الحادية عشرة:هي ما ذكرها الله سبحانه بقوله:{ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} الطفل اسم جنس أي جمع أطفال ، ولذا عاد الضمير ضمير جمع في قوله تعالى:{ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} ، أي لم يعلموا عورات النساء يقال:ظهر عليه أي علمه واطلع عليه ، يقال ظهرت على كذا أي علمته ، أي يرون المرأة ، فلا يفرقون بين العورة وغيرها ، وهذا دليل على كمال الغفلة عن العلاقة بين الرجل والمرأة ، فهؤلاء يستثنون من إبداء الزينة أمامهم ، فإن نظراتهم ، ليس فيها شهوة منبعثة ، وهناك حرج على النساء في إخفاء زينتهن عنهم ، ولا يوجد ما يدعو إلى الوقوع في الحرج ، فسبب المنع غير قائم ، والباعث عليه غير موجود .
هذا هو الأمر بالنسبة لإبداء الزينة ، ما منع منه ، وما استثنى في أحوال قد تقصيناها حالا ، حالا .
وقد قال تعالى بعد ذلك عاطفا على النهي ، وذلك قوله تعالى:{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} ، أي لا تضرب برجلها ليعلم الناس ما تخفيه من خلخال أو زينة على الساق ، وإن النهي عن هذا يتضمن النهي عن الضرب في ذاته بحركة غير محتشمة ، تتلوى فيها المرأة تلويا مغريا ، ثم إنه يبدي الزينة المغرية المشتهاة ، وقد قال الغزالي:إن الصّبّ المتيم يثير شهوته سماع صوت الهون تدق به حبيبة .
وفي الجملة:إنه يجب التستر في كل شيء ، فلا يبدو منها ما يثير النظر أو الشهوة ، وإن النفوس قد تغفل عن بعض هذا الواجب وهو غض البصر ، ولذلك ختم الله تعالى الآيتين بقوله:{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة مما عساه يكون قد غفلوا عنه من أمر الغض الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب ، ولتتطهر منه السرائر ، كما تطهرت المظاهر ، وقوله تعالى:{ جميعا} ليعم الأمر بالتوبة الذكور والإناث ، فقد يدخل البيوت من يظن فيه الخير ، وليس خيرا ، وقد يكون تأثم من إدخاله إذا تبين فساد نفسه ،{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، أي تفوزون ، والرجاء من العباد ، لا من الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى .