هذا مقال المنافقين وضعفاء الإيمان ، أما مقال المؤمنين ، فقد ذكره بقوله تعالت كلماته:
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 51 )} .
بعد أن بين سبحانه حال المنافقين وضعاف الإيمان بين أقوال المؤمنين وأحوالهم ، فقال سبحانه وتعالى عن أولئك المؤمنين:{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} "إنما"للحصر وتدل على القصر ، و"كان"هنا تدل على الدوام والاستمرار في الماضي والحاضر والقابل ، و( قول ) خبر كان وقوله تعالى:{ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ويكون مؤدى الكلام السامي ، إنما كان قول المؤمنين المستمر الدائم ، إذا دعوا إلى الله ورسوله ، أي حكم القرآن والسنة ، وهو حكم الله ورسوله هو قولهم{ سمعنا} دعوة الله ورسوله ليحكم بيننا{ وأطعنا} قولهما ، ووحد الحكم وعاد الضمير عليهما بضمير الواحد ، لأن الحكم واحد ، إذا أمر الله ورسوله به نفذه ودعا إليه ، ولا قول لهم سوى ذلك ، بل قولهم مقصور عليه ، وهم مقصورون عليه لا قول لهم غيره ، فلا مرض في قلوبهم ، ولا امتراء في إيمانهم ، ولا هوى يتحكم فيهم فيتبعون حكم الله إن صادف أهواءهم ، ويعرضون عنه إن لم يصادف هذه الأهواء فهواهم هو الذي يحكمهم ، لا الحق هو الذي يحكمهم .
وقد حكم الله تعالى لهؤلاء الذين قالوا:سمعنا وأطعنا بقوله تعالى:{ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، أي الفائزون ، وقد فازوا بالحق ، لأن الحق في ذاته قوة واطمئنان وسعادة لمن ذاقه وعرفه ، وهو اطمئنان النفوس واستقرارها وفازوا عند الله تعالى برضاه وهو أكبر الفوز ، وأعظمه ، والإشارة إلى أولئك المتصفين بالطاعة وسماع الحق والإيمان به والإذعان له ، وهنا قصر واختصاص ، وذلك بتعريف الطرفين أي أولئك وحدهم هم المفلحون ، ولا فلاح لسواهم ، وقد أكد سبحانه فلاحهم بالقصر .
وهنا نشير بكلمة موجزة عن حال المسلمين بعد ضعفهم ، واستخذائهم ، وركوب النصارى واليهود عليهم ، لقد ارتضوا القوانين الأوروبية بديلا لأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، حاسبين أن ما عند النصارى هو الخير وما عند غيرهم لا خير فيه ، حتى إنه لو دعا داع إلى أحكام الله ورسوله في كتابه وسنة نبيه رموه بأنه رجعي ، وأنه يريد أن يعود بالأمة إلى الوراء ، ويقولون تقدم الأمة أمامها لا وراءها .
وفي الحق:إننا إذا دعونا إلى تطبيق حكم القرآن والسنة ، إنما ندعو إلى الحق في ذاته وإلى العدل ، وإن القرآن إذ يدعوهم بالحق والعدل في ذاته الذي لا يفرق بين الناس ، تدعوهم الأمة النصرانية إلى تحكيم الأعراف من غير نظر إلى كونه عدلا أو باطلا ، ويقولون بل نتبع أعراف الناس ، وما أشبه هذا بقول المشركين ، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ، وإننا نترك حكم القرآن وهو النور ، وهو الحق وهو العدل وهو الفضيلة ، وهو حبل الله الممدود إلى يوم القيامة ، ونأخذ بالأحكام التي تبيح الزنى وشرب الخمر والربا والسحت ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وأحكام الله هي العدل كما تشهد الفطرة ، وكما يشهد الإنصاف . . . نترك الحق ونأخذ بالجبت والطاغوت . . . فهل نحن مؤمنون .
إنه لا قوة إلا إذا كنا عدولا فيما بيننا ، ولا نكون عدولا حقا إلا إذا أقمنا كتاب الله ورسوله ، وتركنا وراءنا ظهريا تلك القوانين ، فهي الطاغوت ، وهي والفضيلة نقيضان لا يجتمعان .