ولقد بين سبحانه وتعالى جزاء من يكونون في هذه الأحوال الموجبة والسالبة ، والمشبهة ، فقال عز من قائل:
{ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ( 75 ) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} .
يقول المفسرون الذين يتجهون إلى الأعراب ابتداء إن قوله أولئك{ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ…} خبر لقوله تعالى:{ وعباد الرحمن} ، وما وليها من صفات وأحوال ، وأنا أقول ، إن قوله تعالى:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} هو مبتدأ وخبره ، وما جاء بعد ذلك من معطوفات على الخبر ، والمؤدى واحد ، فليس الاختلاف اختلافا في المعنى ، إنما اختلاف في الإعراب .
والإشارة هنا إلى أصحاب هذه الأحوال والصفات ، ومن المعروف أن الإشارة إلى الموصوف تومئ إلى أن هذه الأوصاف سبب الحكم ، وهو هنا الجزاء فهذه الصفات سبب ذلك الجزاء ، وقد قال القرطبي في عبارة جامعة لهذه الصفات:"وأوصافهم من التخلي ، وصفات التخلي هي إحدى عشرة ، التواضع والحلم ، والتهجد والخوف ، وترك الإسراف والإقتار ، والنزاهة عن الشرك ، والزنى والقتل ، والتوبة وتجنب الكذب ، والعفو عن المسيء ، وقبول المواعظ ، والابتهال إلى الله تعالى".
والغرفة تطلق على علية البيت ، واستعيرت للجنة أو لعلية الجنة أي أعلى مكان فيها ، لأن هذه الصفات رفعتهم إلى أعلى درجات الإنسانية ، فاستحقوا أعلى جزاء وهو الجنة أو أعلاها .
وإنهم يجدون في الجنة التي تسنموا أعلاها ، وكانوا في الذروة الترحاب والأنس والكمال ويجدون مع هذا كله الأمن والسلام والاطمئنان والقرار ، ولذا قال تعالى:{ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} لقّى هي مضعف لقي أي يلقون في قوة راحمة تحية طيبة ، وهي اللقاء الطيب ، مع الأنس والاحترام والإقبال ، كما قال تعالى:{. . ولقاهم نضرة وسرورا ( 11 )} [ الإنسان] ، والسلام الأمن والاطمئنان ، فلا يزعجون بشيء مما يزعج به أهل الدنيا ، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ،{ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ( 24 )} [ الرعد] .
وهنا إشارة بيانية في قوله تعالى:{ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} ، أي أن هذا الجزاء الموفور الذي هو أعلى درجات الجنة بما صبروا ، أي بسبب صبرهم وذكر ذلك تصويرا لصبرهم الدائم المستمر ؛ وذلك لأن هذه الطاعات تحتاج إلى إرادة قوية صابرة ، فإنها قمع لشهوات التعالي في الدنيا ، والغطرسة والسلطان ، وغيرها من الغرائز الإنسانية ، فقد قمعوا هذه الغرائز وشذبوها ، وجعلوها في ناحية الخير لا تعدوها .