ومعنى الآية الكريمة في الجملة:تذكر حالهم أيها النبي الكريم فبعضهم هم بأن يفشل ، وان قوما قد نكصوا على أعقابهم ، وأثر ذلك في نفوس غيرهم ، وانك بأمر ربك وعدتهم بان يمدهم الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ، أي ينزلهم الله تعالى إلى أفئدتهم فؤادا فؤادا ، ويكون منهم النصر العزيز بأمر الله تعالى ، وغن هذه الحال ، وهي ابتلاء الوهن على نفوس بعض المسلمين ، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه يعدهم وعدا أوفى ، ويزيل احتمال عدم الكفاية من مدد الله ، ويؤكد الكفاية فيقول تعالى:
{ بلى عن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}"بلى"هنا إجابة لحاجتهم من المعونة الروحية ، وفيها معنى الإضراب عن الإمداد الكثير إلى الإمداد الأكثر ، والمعنى:يكفيكم ان يمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ونرى من المقابلة بين النصين الكريمين ان النص الأول فيه استنكار للنفي المؤكد ب"لن"من ان ثلاثة آلاف لا يكفي ، وفي هذا النص تأكيد بأنه يكفيهم خمسة آلاف ، ولكن الكفاية لا تتحقق في ثلاثة آلاف او خمسة آلاف إلا بشرط ، وهو الصبر ، والتقوى ، ولذا قال تعالى:{ بلى إن تصبروا} أي إن تسربلتم سربال الصبر ، واستشعرتم تقوى الله ، وعلمتم ان النصر من عنده ، فإنكم لا محالة منتصرون ، وسيمدكم الله بروح منه ، أولئك الملائكة الأطهار ، وإن الصبر هو قوة الحروب ، والصبر يتقاضى ان يضبط المجاهد نفسه فلا ينساق وراء هوى المال ، وان يضبط نفسه فلا يفر في لقاء ، والتقوى تتقاضى التوكل بعد الأخذ في الأسباب ، والاعتماد على القوي القهار الغالب على كل شيء ، فبالتقوى والصبر تفيض الروحانيات المؤيدة التي هي مدد الله من الملائكة . ومعنى{ ويأتوكم من فورهم} أي من ساعتهم ، والأصل في الفور انه مأخوذ من فوران القدر ، ونحوها ، ثم استعير للسرعة ، ثم صار بمعنى التعقيب وعدم التراخي ، ويطلق على كل حال لا تأخير فيها ولا بطء . ومعنى{ مسومين} أي مكلفين او مرسلين .
ومعنى النص الكريم:إن تصبروا وتتقوا ويأتوا من ساعتهم وقد استعددتم له أتم استعدادا ، فإن الله- تعالى- ممدكم بخمسة آلاف من الملائكة- يرسلها تأييدا لكم .
ولقد قرر بعض العلماء ان الله أمد المؤمنين في بدر بالملائكة ، ولم يمدهم بها في احد ، وقد قال في ذلك الطبري:إن الله اخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم انه قال للمؤمنين:ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ، ثم وعدهم بعد الثلاثة آلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم ، ولا دلالة في الآية على انهم امتدوا بالثلاثة آلاف ، ولا بالخمسة الآلاف ولا على انهم لم يمدوا بهم ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت انهم أمدوا بالثلاثة آلاف ، ولا بالخمسة ، وغير جائز ان يقال في ذلك إلا بخير تقوم الحجة به ، غير ان في القران دلالة على انهم أمدوا يوم بدر بألف ، وذلك قوله تعالى:{ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة
مردفين}[ الأنفال] أما في أحد فالدلالة على انهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا ، وذلك انهم لو أمدوا لم يهزموا ونيل منهم ما نيل منهم".
ونحن نوافق شيخ المفسرين في ذلك ، ذلك ان شرط الإمداد كان الصبر والتقوى ؛ والصبر أي ضبط النفس لم يكن من الرماة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهر المؤمنين ، فلا يتحركوا سواء أكانت الجولة الأولى للمؤمنين ام كانت عليهم .
ولكن ما معنى الإمداد ؟وهل نزل الملائكة إلى الأرض حاملين السيوف مقاتلين في صفوف المؤمنين ؟ لقد ذكر بعض الرواة انهم نزلوا ذلك النزول ، ويكون معنى الإمداد هو الإمداد الحسي الذي يرى ويسمع ولكن ليست هذه الرواية هي المشهورة وغن الحق في الموضوع انهم لم يروا مقاتلين ، ولا محاربين .
وإذن كيف كان الإمداد ؟ الإمداد مكن مده بمعنى بسطه ، ثم أطلق على الزيادة في المال والقوة ، ويصح ان يطلق بمعنى الإمداد الروحي ، وليس معنى الإمداد الروحي هو تقوية العزيمة فقط ، بل معناه ان الله يفيض بأرواح الملائكة المطهرين ،فتكون في قلوب المؤمنين تثبتهم وتقويهم ، وتطهر نفوسهم ، وتجعلها نحو الدين ، ثم تفيض هذه الرواح من الملائكة فتثبط المشركين وتخذلهم وتلقى الرعب في قلوبهم ، فعمل الملائكة تثبيت المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، ولذا قال تعالى في غزوة بدر الكبرى:{ غذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب . . .12}[ الأنفال] وعلى ذلك نحن نميل إلى ان نزول الملائكة نزول روحي ، وأرواح الطاهرة المطهرة تحل في قلوب اهل الحق ، إذا وجد عندهم الاستعداد لتلقيها ، والاستعداد لتلقيها يكون بالتقوى وتخليص النفس من أهوائها ، وضبط المشاعر والإحساس ، حتى يكون الجو الروحي الذي يمكن ان تنزل فيه تلك الأرواح التي هي نور خلقه الله تعالى ، ولذلك كان الشرط في نزول الملائكة ، وإمدادهم للمؤمنين ، ان يصبر المؤمنون جميعا ويتقوا . ولا يكون في فريق منهم ما يجعل للهوى في قلبه سبيلا فيمنعه من ذلك التلقي الروحي . وإن ذلك هو رأي الطبري فقد ذكر في تفسير قوله تعالى:{ فثبتوا الذين آمنوا} إذ قال( قووا عزائمهم ، وصححوا نياتهم ، في قتال عدوهم من المشركين ، وقيل كان ذلك بمعونتهم إياهم بقتال أعدائهم ) ونرى بهذا انه اعتبر من قال إنهم قاتلوا معهم قوله ضعيف ، ولذا عبر عنه بقيل ، وقد أنكر أبو بكر الأصم من فقهاء الحنفية قتال الملائكة ، وقرر ان ذلك إن كان فهو من أعظم المعجزات ولم يذكر قط انه معجزة ، ولن ملكا واحدا يكفي لدك مدائن ، فلا تكون ثمة حاجة لعدد من الملائكة ألفا او ثلاثة آلاف او خمسة آلاف ، وغنما المراد تقوية القلوب والعزائم .
هذا ، وإننا ننتهي من هذا إلى ان الملائكة وهي الرواح المطهرة نزلت ، وامتزجت بأرواح أولئك الصديقين الأطهار في يوم بدر ، وكان النصر من عند الله تعالى . وان الأرواح الطاهرة من الملائكة قد تلابس أرواح أمثالها ، ولا دليل من العقل يمنع وقد قام الدليل من النقل ، والله سبحانه وتعالى اعلم .