{ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين137 هذا بيان للناس وهدى وموعظة للكتقين138 ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين139 إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين140 وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين141}
أشار سبحانه في الآيات السابقة إلى غزوة احد وإمداد الله بالملائكة للمؤمنين في الحروب إن صبروا في اللقاء ، ولم يختلفوا على قائدهم في المعركة ، وجعلوا ما عند الله تعالى الغاية والمرمى ، ثم ذكر من بعد ذلك سبحانه ما هو دواء القلوب ، وغذاء الإيمان ، وهو الطاعة والتعاون ، وألا يأكل احد حق أخيه او ماله بالباطل ، وان المال الحلال هو قوة الحروب ، والمال الحرام كمال الربا سحت ،وطلبه من ضعف الإيمان ، ويربي خور العزائم إذ عن شهوة المال ، والشجاعة وحب الفداء خلال لا تجتمع في قلب رجل واحد ، ثم بين سبحانه ان أعظم الذخائر هو تربية النفوس على التقوى وطلب مغفرة الله سبحانه وتعالى .
ولقد جاء بعد ذلك الكلام على اثر غزوة احد في نفوس المؤمنين ، وقد نهاهم سبحانه عن الضعف والوهن والحزن ، وأمرهم ان يتخذوا من الهزيمة سبيلا للنصر ، وإنها سنة الله في خلقه فعليهم ان يخضعوا لها وقروا في ذات انفسهم بها ، ولذا قال سبحانه:{ قد خلت من قبلكم سنن} .
"خلت"معناها مضت وثبتت وتقررت ، والسنن جمع سنة ، وهي تطلق بمعنى الطريق المسلوك المعبد ، وتطلق بمعنى المثال الذي يتبع ، ولقد قيل إنها من قولهم سن الماء إذا صبه صبا متواليا فشبهت العرب به الطريقة المستقيمة المتبعة المستمرة ، والمعنى انه قد مضت وتقررت من قبلكم سنن ثابتة ونظم محكمة فيما قدره الله سبحانه وتعالى من نصر وهزيمة ، وعزة وذلة ، وعقاب في الدنيا وثواب فيها ، فالحق يصارع الباطل ، وينتصر احدهما على الآخر بما سنه سبحانه من سنة في النصر والهزيمة ، من طاعة للقائد ، وإحكام في التدبير ، وقوة إيمان ، واستعداد للفداء ، وهكذا ؛{ وكل شيء عنده بمقدار8 عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال9}[ الرعد] .
وإن من سنن الله تعالى الثابتة ألا يمكن من الظلم وان ينتصر اهل الحق إذا عملوا على نصرته ، وتضافرت على إقامته ولم ينحرفوا عن طاعته ، وان اهل الباطل قد ينتصرون إن اتحدوا واستعدوا ، فينالون الظفر لتخاذل اهل الحق وانقسامهم ، أو إرادتهم عرض الدنيا ، او عدم الصبر على طاعة القائد العظيم كما كان الشأن في احد .
وإن من سنن الله تعالى ان يجعل العاقبة للصابرين الصادقين ، فإن أملى للكافرين سنة فإنه سيأخذهم من بعد اخذ عزيز مقتدر ، وينصر عليهم اهل الحق ، وإنما قدر الله تعالى نصرتهم الوقتية على اهل الحق ليصقل اهل الإيمان ، وليهديهم هداية عملية إلى طريق الانتصار ، وليميز من بينهم ضعيف الإيمان ، ويظهر نفاق اهل النفاق ، وبذلك تتبين الصفوة المختارة التي يعتمد عليها ، ويذهب الذين مردوا على النفاق بنفاقهم ، فلا ينخدع بهم احد ، ولا يرجفون بكيدهم في الجماعة ، ولقد بين سبحانه لأهل الإيمان عاقبة المكذبين تثبيتا لقلوبهم ، وتأييدا لهم فقال جل من قائل:{ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} .
أي أنه إذا كانت سنة الله تعالى في خلقه ، او العاقبة دائما للمتقين ، فسيروا في الأرض ، فانظروا الحال التي قد انتهى بها الكاذبون . والتعبير بلفظ( كيف ) الدال على الاستفهام يقصد به التصوير وتوضيح الحال في صورة تدعو إلى العجب وتثير الاستغراب ، أي ان عاقبتهم التي انتهوا إليها من تدمير ديارهم ،وتعفية آثارهم بعد ان طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد ، تثير العجب والدهشة لمن ضعف إيمانه ، وتلقى بالطمأنينة والصبر والرضا لمن قوي إيمانه .
وفي هذه الآية وأمثالها من الآيات التي تدعو إلى السير في الأرض والبحث لمعرفة أحوال السابقين دعوة إلى أمرين:أحدهما- دراسة تاريخ الأمم بشكل عام ، فإن التاريخ كتاب العبر ، وسفر المعتبر ، وهو رباط الإنسانية التي يربط حاضرها بماضيها .
و الأمر الثاني- دراسة أحوال الأمم من آثارها فإنها اصدق من رواية الرواة وأخبار المخبرين ، فقد يكون التاريخ المكتوب أكاذيب ، اما الآثار فصادقة لمن يعرف كيف يستنطقها ، وغن الملوك وأشباههم يزيفون الأخبار المنقولة ، وإنه ليحكى ان احد الملوك كلف كاتبا ان يكتب تاريخ دولته ، فسأل بعض أصحاب الكاتب عما يكتب فقال:"أكاذيب ألفقها وأباطيل أنمقها".