{ ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين178 ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وغن تؤمنوا وتتقوا فلكم اجر عظيم179}
النص الكريم في بيان معاملة الله تعالى للذين تركوا الحق ، ويتبعون الضلال ، ويحادون الله ورسوله سرا وإعلانا ، وقد بين سبحانه في الآية انه لا يصح ان تكون مسارعة الكفار في الكفر وتنقلهم من حال إلى حال فيه سببا في حزنك ، وإلقاء الغم في قلبك ، لنهم لا يضرون إلا انفسهم ولن يضروك شيئا ما دام الله سبحانه معك ، ولن يتخلى عنك ، وفي هذه الآيات يبين معاملة الله تعالى لهؤلاء الكافرين ، واختباره سبحانه للمؤمنين ، وانه سبحانه وتعالى قد قدر كل ذلك في علمه المكنون الذي لا يطلع علي أحد ، وقد قال سبحانه في أوصاف الكافرين:{ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم} .
هذه الآية تبين حال الذين عاندوا الرسول ، ولم يخلصوا في طلب الحق ، وهؤلاء أقبلوا على الكفر راغبين فيه طالبين له ، حتى غنهم ليجعلون الإيمان الذي أودعه الله تعالى النفوس في تكوينها ، وجعله موضع النور في كيانها- ثمنا يقدم في نظير الكفر الذي يأخذونه ، وفي هذا دلالة على أمرين:
أولهما:ان الكافرين طمس على قلوبهم فاستبدلوا بفطرة الإيمان التي فطر الله الناس عليها كفرا قامت الدلائل على بطلانه فكان هذا دليلا على تمكن الضلال ، وكل ما يقع منهم بعد ذلك من شر يجب ان يكون متوقعا ، فيهون امره ، ويضعف في النفس أثره .
ثانيهما:ان الإيمان في ملك كل إنسان ، وهو الأصل الذي يجب ان يهتدي إليه عندما تلوح ظواهره وبيناته فإن الله تعالى قد ألهم كل نفس فجورها وتقواها ، والبينات الشاهدة الواضحة المؤيدة الهادية تجعل الإيمان في قبضة يد طالب الحق ، فإذا فتح قلبه للكفر ، فقد باع أغلى شيء في الوجود ، وهو الإيمان ، بأحقر شيء في الوجود وهو الكفر ، والكلام بعد ذلك فيه استعارة تمثيلية ، وهي تصوير الكافر الذي يترك بينات الله وآياته ، وغنها لكثيرة ويختار الضلال مع قيام الأدلة على بطلانه ، بمن يكون في يده أجود بضاعة ، ويبيعها بأرخص الأثمان ، بل بشيء لا يفيد قط ، وفيه إشارة إلى ان الكافرين يعلمون ان ما هم عليه هو الباطل ، ولكنه العناد والطغيان ، وقد ذكر ذلك سبحانه وتعالى بقوله:{ وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم . . .14}[ النمل] .
وقد بين سبحانه ان هؤلاء الذين اتجروا بإيمانهم وجعلوه سلعة تباع- مغبة فعلهم عليهم وحدهم دون سائر الناس ، ولن يضروا المؤمنين إلا أذى والعاقبة للمتقين ، ولذا قال سبحانه:{ لن يضروا الله شيئا} أي ليس في طولهم ولا في طاقتهم ان يضروا دين الله تعالى ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا المؤمنين بالله تعالى شيئا من الضرر الذي تكون عاقبته انتصارهم إلى النهاية ، فإن الله تعالى ناصر دينه خاذل أعداء الحق ، فإضافة إرادة الضرر إلى الله تعالى على حذف مضاف ، أي وتقديره دين الله او رسوله او المؤمنين بالله ، وفي حذف المضاف إشارة إلى ان ما يفعله المشركون ويوجهونه إلى المؤمنين إنما يوجهونه إلى الله تعالى رب العالمين ، وذلك إعلاء للدين وللرسول وللمؤمنين .
وإذا كان أولئك لا يضرون الله فهم لا يضرون إلا انفسهم ، وبين سبحانه الضرر الذي يلحقهم بقوله سبحانه:{ ولهم عذاب أليم} أي عذاب مؤلم شديد الإيلام لهم في الدنيا وفي الآخرة ، فآلامهم في الدنيا هزائم تتلوها هزائم ، وخزي وسقوط لهم عن علياء طاغوتهم إلى الدرك الأسفل ، وفعيل هنا بمعنى فاعل ، ك{ بديع السموات والأرض . . .117}[ البقرة] بمعنى مبدع .
ولقد يسأل سائل:لماذا يتمتع هؤلاء بالسلطان ، ولماذا ينتصرون أحيانا ؟ فبين سبحانه ان ذلك إملاء لهم ، فقال:{ ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم} .
قد يرد على الخاطر:إذا كان امر الله هو الغالب فلم يترك هؤلاء في هذا النعيم ؟ فقال سبحانه ذلك النص الكريم .
الإملاء:الإمهال والتخلية بين العامل والعمل ليبلغ مداه ، من قولهم:أملي لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء ، ويطلق الإملاء على طول العمر ، وهو من أملى بمعنى أعطاه ملاوة او مهلة من الزمان . جاء في مفردات الراغب الأصفهاني:"الإملاء ، ومنه قيل للمدة الطويلة ملاوة من الدهر ، وملى من الدهر".
وهنا في النص الكريم قراءتان إحداهما بالياء أي:{ ولا يحسبن الذين} ويكون النهي عن الظن متجها للذين كفروا ، والمعنى على هذا لا يجل بخواطر أولئك الكافرين أن إملاءنا لهم بإعطائهم نعيما في الدنيا ، وإرخاء العنان لهم ، وتمتيعهم وعدم القضاء عليهم دفعة واحدة- فيه خير لهم ، ويكون مفعولا يحسب قد سد مسدهما"ان"المصدرية و"ما"بعدها فإن ذلك كثير في القرآن وكثير من كلام العرب ، كقولك عن شخص:لا يحسب أنه عالم .
وعلى القراءة الثانية{[630]} ،{ ولا تحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم} يكون الخطاب بالنهي متجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون المفعول الأول هو{ الذين كفروا} ، و{ انما نملي لهم خير لأنفسهم} بدل من الذين كفروا ، وسد مسد تظن يا محمد ولا يظن أحد من أمتك الذين كفروا قد أملي لهم لخير يأتيهم ، ويكون توجيه الظن إلى الذين كفروا له فائدة ؛ لأن الظن قد سبق إلى المؤمنين من أشخاصهم ، وما أوتوا من مال وقوة وعزة نفر ، وبقاءهم على هذا أمدا طويلا .
وقد صرح سبحانه من بعد ذلك بنتيجة الإملاء فقال سبحانه:{ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين} .
والمعنى أننا لا نملي للذين كفروا إلا لنتيجة واحدة مقررة ثابتة ، وهي ان يزدادوا إثما ، وينالهم عذاب مهين مذل لهم في الدنيا والآخرة ، فإنهم عن كانوا قد نالوا في هذا الإملاء نعيما وعزا ، فإنهم بعد ذلك سينالهم العذاب الأليم المهين الذي لا يكون لهم قبل بدفعه .
و"اللام"هنا لبيان العاقبة لا للتعليل والغاية وذلك كقوله تعالى:{ فالتقطه آل فرعون ليكون عدوا وحزنا . . .8}[ القصص] ، وذلك بيان للنتيجة ؛ لأن نتيجة الالتقاط كانت كذلك ، وغن كان الباعث في الحقيقة هو ان يتخذوه لهم وليا وموضع سرور ؟ ، وبهذا تكون الآية مبينة لغاية عملهم ، وان النتيجة شر لهم لا محالة .
وقد يقول قائل:إن من الكافرين من تكون زيادة الإملاء له سببا في زيادة خير يقوم به وإن كان كافرا ، وغن من هؤلاء الكافرين من يؤمن ويحسن إيمانه ، فكان حقا ان الإملاء أنتج خيرا إذ مكنهم من الإيمان .
ونقول في الإجابة عن الأول إن زيادة الإثم ، لا تمنع وجود فعل خير ، وهم يزداد إثمهم باستمرارهم على الكفر ومشاقة الله ورسوله على ان ما يفعلون من خير يحبطه جحودهم وإنكارهم ومعاندتهم لله سبحانه إذ تنقصهم عند فعل الخير النية الطيبة .
وعن الثاني نقول:عن زيادة الإثم مشروطة باستمرارهم على الكفر ؛ لأن الإملاء ينقطع بإيمانهم ، وإن الإملاء إنما هو لأجل مشاقة الله ورسوله وإعلان الكفر ومحادة الحق ، وبإيمانهم تنتهي هذه المشاقة فيزول سبب الإملاء ، وإن زيادة الإثم إنما هي منوطة بوصف الكفر ، فبانتهائه تزول الزيادة ، بل يغفر الله سبحانه وتعالى ما سبق كما قال تعالى:{ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف . . .38}[ الأنفال] .
وقد وصف عذاب هؤلاء بأنه مهين ليتعزى المؤمنون عما يرون من عزة هؤلاء وسلطانهم ببيان انهم سيكونون من بعد في أشد الذلة ؛ لن عذاب الله سبحانه سيريهم الهوان الحقيقي الدائم الذي لا رفعة معه .