وتمتدّ الحياة بالكافرين وتنفتح لهم كلّ الأبواب التي تكفل لهم ما يريدونه من الرغبات والشهوات والفرص الماديّة والمعنويّة ،وتطول أعمارهم ،ويتقلّبون في نعيم الدُّنيا كما يحبّون ،ويحسبون أنَّ في ذلك الخير كلّ الخير والسعادة كلّ السعادة ...ولكن ما هو مقياس الخير ؟هل هو في ما يحصل عليه الإنسان من النعيم في حساب اللحظات السريعة الزائلة ،أم هو في ما يعيشه من الرضى والطمأنينة والنعيم في حساب الخلود الدائم في نهاية المطاف ،وإن كان ذلك من خلال الأذى والتعب والشقاء في بداية الأمر ؟!وفي هذا الجوّ يمكن أن نُقرِّر حالة هؤلاء الكافرين في ما تخضع له من خير أو شر .ويحسم القرآن الموقف لمصلحة الفكرة التي تجعل القضية خاضعة للنتائج لا للبدايات ،لأنَّها هي التي تعمّق السعادة في حياة الإنسان ،فلا تكون مجرّد حالة طارئة تزول مع الزمن .
وتلك هي حالة الإحساس بالسعادة التي يعيشها الكافرون في امتداد الحياة لديهم [ ولا تحسبنَّ الذين كفروا أنَّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم] والإملاء: الإمهال وطول المدّة ،لأنَّهم لا يتحرّكون في حياتهم من المواقع الصحيحة التي تربطهم بطاعة اللّه وما تؤدّي إليه من خير كثير ،[ إنَّما نملي لهم ليزدادوا إثماً] لأنَّ الكافر كلّما امتدّ به العمر كلّما ازداد معصيةً وإثماً وتمرّداً على اللّه ...وفي ذلك الشرّ كلّ الشرّ في ما يؤدّي به إلى عذاب اللّه ،وما يعنيه ذلك من سوء العاقبة .واللام هنا للعاقبة لا للغاية ،كما هو واضح ،فيكون وزانها وزان قوله تعالى: [ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً] ( القصص:8 ) ؛فقد أخذوه ليكون لهم سروراً وقرّة عين ،لأنَّهم انفتحوا على مستقبله معهم ليكون لهم ولداً في تمنياتهم العاطفية النفسية ،ولكن جهلهم بأحداث المستقبل أخفى عنهم النتائج القاسية المرعبة التي تنتهي إليها علاقة هذا الوليد بهم ،فسيتحوّل الأمر إلى أن يكون عاقبة أمره العداوة لهم من خلال عداوة الرَّسول للكافرين ،والحزن العميق الذي تحمله المأساة التي سوف يعيشون في داخلها .
وهكذا يجد هؤلاء الذين كفروا أنَّ هذا الترف الذي يتنعمون به ،وهذا الجاه الذي يتحرّكون فيه ،وهذه الثروة التي يملكونها ،وهؤلاء الأولاد الذين ينتسبون إليهم ويفرحون بهم ،وغير ذلك من متاع الحياة الدُّنيا ...سيجدون كلّ ذلك خيراً لأنفسهم ،وأيّ خير في الدُّنيا أعظم من أن يملك الإنسان كلّ ما يحقّق رغباته وحاجاته وشهواته ،ولكنَّهم ينطلقون في ذلك في استغراقهم في الدُّنيا التي يعتبرونها نهاية المطاف ،ولا يلتفتون إلى أنَّهم سيواجهون الآخرة في كلّ مسؤولياتهم مما قدّموه من عمل خير أو شر ،ليعرفوا أنَّ العبرة بأواخر الأمور وعواقبها لا ببداياتها وأولياتها ،وسيرون أنَّ طول المدّة في الدُّنيافي هذا الخطّ المنحرف الذي يتحرّكون فيهسوف يكون زيادة في الإثم ،وخطورة في المسؤولية ،وعذاباً مهيناً .وهكذا نعرف أنَّ اللّه لم يرد لهم أن يزدادوا إثماً ،لأنَّه خلقهم ليطيعوه وليحصلوا على جنّته من خلال الحصول على رضوانه ،ولكنَّهم عندما ازدادوا معصية ازدادوا إثماً من خلال أنَّ النتيجة تتبع المقدّمات [ وما ظلمهم اللّه ولكن أنفسهم يظلمون] ( آل عمران:117 ) .
[ ولهم عذابٌ مهينٌ] يعيشون في المهانة والإذلال والانسحاق في النَّار وبئس القرار .
على الداعية إخضاع انفعالاته للتفكير العقلاني:
وقد نحتاج إلى إثارة هذه الصورة في أجواء الدعوة إلى اللّه من خلال هذه الآيات ،وذلك من أجل التخفيف من الحالة النفسية السيّئة التي تواجه الدُّعاة في ما يواجهونه من كفر الكافرين والابتعاد بهم عن المشاعر الضاغطة في ما يشاهدونه من امتداد الحياة بالكافرين مما يخيّل للنَّاس أنَّه الخير كلّ الخير ،لا سيّما في مقابل ما يشاهدونه من البلاء الذي يصيب المؤمنين في أنفسهم وأموالهم ...فإنَّ التركيز على الطبيعة الواقعية لهذا كلّه يربط العاملين بالحقائق الأساسية لحركة العمل ،ولا يجعلهم تحت رحمة المشاعر الطارئة من خلال المظاهر والأوهام .
ولعلّ الفكرة التي نستوحيها من الآيتين هي أنَّ اللّه يريد للإنسان ،سواء أكان نبيّاً أم وليّاً أم داعية إلى اللّه ،ممن يتحرّكون في خطّ الدعوة ،أن يجعل انفعالاته النفسية خاضعة للتفكير العقلاني الموضوعي الذي يحسب حسابات الواقع في حركة النَّاس من حولهم ،وفي طبيعة الظروف المعقّدة المحيطة بهم ،ليعرفوا أنَّ الداعية لا يملك انفعاله في دائرة الذات ،بل يتحرّك بها في خطّ الرسالة التي تخطّط من أجل الوصول إلى عقول النَّاس وقلوبهم مما قد يكلّف الكثير من العناء والجهد والمشاكل العملية ،وذلك من جهة أنَّ هناك أكثر من عقدةٍ فكريةٍ أو نفسيةٍ أو واقعيةٍ تتحكم في شخصيات أولئك الكافرين ،الأمر الذي يحتاج إلى تجارب عديدة وصدمات متنوّعة تؤثّر تأثيراً بالغاً في إزالة الطبقة الصخرية المتحجّرة الملتصقة بعقولهم وقلوبهم ،ولذلك فإنَّ المسألة تحتاج إلى الصبر ،والصبر يحتاج إلى الوعي المعرفي والروحي لحجم المشكلة في الواقع ،ليكون الداعية منفتح العقل والروح والقلب والحركة على ذلك من أجل الوصول إلى تنفيذ خطّة الدعوة في تفسير الإنسان .
إنَّ على الداعية أن يتحرّكفي ساحة الصراعبمزاج الرسالة التي لا تعيش تحت تأثير الانفعال ،بل تعيش في دائرة العقل المتحرّك في اتجاه عناصر النجاح الواقعية للدعوة .
ولعلّ مشكلة البعض من الدُّعاة أنَّهم يربكون حركة الدعوة بانفعالاتهم الذاتية ،وقد نجد البعض منهم يسقط أمام تهاويل القوى المضادة ،لأنَّ ذلك يثقل نفسه ،ويحطّم كرامته ،ويوحي إليه بالمهانة والإذلال ،وقد يتطوّر الأمر ببعض هؤلاء فيخضع للمشاعر المنحرفة التي تؤدّي به إلى الإحساس بخذلان اللّه لأوليائه ونصرته لأعدائه ،مما يراه من امتداد سلطة الأعداء وانحسار فاعلية الأولياء ،وذلك من خلال النظرة السطحية الانفعالية إلى الأمور ،والابتعاد عن النظرة العميقة الواسعة المنفتحة على واقع الحياة والإنسان .
وهذا ما يجب على العاملين في حقل الدعوة إلى اللّه أن يفهموه ويتدبروه ويخطّطوا له في تربية الدّعاة ،وترشيد الحركة ،وتصويب الوسائل ،وتثبيت المواقف والمواقع .
وفي ضوء ذلك ،فإنَّنا لا نفهم النهي عن الحزن في مسارعة الكافرين في الكفر أنَّه أسلوب من أساليب التسلية ،بل هو وسيلة من وسائل الوعي لحركة المفاهيم العقيدية في وجدان الإنسان المسلم ،ليمنعه ذلك من الضعف والانسحاق أمام مظاهر التحدّي ،وذلك من خلال دراسة العناصر الموضوعية التي قد تجعل من ظاهرة الهزيمة في السطح واللحظة عملية نصر في العمق والامتداد .واللّه العالم .