وقد بين سبحانه ان تلك الشدائد التي نزل بالمؤمنين هي خير لهم ليتبن الطيب من الخبيث ، ولذا قال سبحانه:{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} .
كانت هذه الشديدة التي نزلت بالمسلمين في غزوة احد سببا في ان عرف المؤمنون الصادقون من المنافقين وضعاف الإيمان ، وقد بين سبحانه ان شان الله تعالى في عباده ان يختبرهم ، ويصهر جماعتهم بالشدائد لينفصل عنهم الخبث ، كما ينفصل الخبث عن الذهب بصهره ، و"يذر":معناها يترك ، وقوله:{ على ما انتم عليه} ، من اليسر ، وعدم التعرض للشدائد ، ومعنى{ يميز} يفصل ، وقرئ ( يميز ){[631]} أي يحدد ويبين ، والطيب هو الصادق الإيمان ، والخبيث هو المنافق ومن يثق به من ضعاف الإيمان ، ومعنى النص الكريم:ما كان من شأن الله تعالى وسنته في عباده ، ومعاملته لأهل الإيمان والصدق ان يتركهم في حال من اليسر الذي لا صعوبة معه ، فإن ذلك يجعلهم مختلطين لا مميز يميز من دخل في الإيمان واشرب قلبه حبه ، ومن دخل في الإسلام ولم يذق حلاوته ، ومن أضمر الكفر وأظهر الإيمان ، وما كان الله تعالى ليتركهم غير متميزين حتى يبين الخبيث من طيب ، وتنفصل الأقسام ، وتتميز كل جماعة بحقيقتها . وهذا على ان قوله تعالى:{ على ما انتم} من نصر مستمر ، لا مشقة ، لا مشقة فيه ولا ابتلاء ، وعلى ان قوله تعالى:{ على ما انتم عليه} بمعنى مختلطين غير متميزين يكون السياق واضحا ، وقد بينه الزمخشري بقوله( لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله ، فيكون عيارا على عقائدكم ، وشاهدا بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها فإن ذلك مما استأثر به علم الله ) .
وإن أولئك المنافقين الذين يتخذون من الهزيمة دليلا على عدم صدق الرسول لكاذبون ؛ لأن الله لا يطلع على غيبه أحد ، وما كان لكم معشر المؤمنين ان تعلموا حقيقة المنافقين وضعاف الإيمان فإن ذلك من الغيب .
{ وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} الغيب ضد المشاهد ، وهو ما غيب عنا مما لا نعلمه بطريق الحس ولا تصل عقولنا المجردة إلى معرفته ، كالعلم بما يكون في المستقبل ، وحقيقة الملائكة وذواتهم ، وغير ذلك مما غيب الله عنا علمه ، و"اجتبى"معناها اختار واصطفى ، والمعنى:من شأن الله تعالى أن لا يطلع عباده المؤمنين على الغيب من الأمور ، حتى يعرفوا ما يكون لهم في الغد ، بل إنه يغيب المستقبل عنهم ليجدوا ويجتهدوا ، ويعلموا ، وسيرى الله عملهم ورسوله والمؤمنون ، ومع ذلك يصطفى من رسله من يطلعهم على بعض الغيب ، كما كان يطلع رسوله أحيانا على بعض ما يدبر له كاطلاعه على ما دبره اليهود لاغتياله ، وكاطلاعه على من حملت رسالة إلى قريش تخبرهم بسر غزوته لهم ، وكمكاشفته بالوحي لجبريل الأمين ، وهكذا من شئون الغيب ، ويستفاد من هذا ان الله سبحانه وتعالى قد اختص بعلم الغيب ، كما فقال تعالى:{ وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو . . .59}[ الأنعام] وان الأنبياء قد يصطفى الله منهم من يعطيه علم بعض المغيبات ، فما يعطيهم يعلمونه ، وغنه لنزر قليل لا يعد شيئا ولقد قال سبحانه على لسان نوح عليه السلام:{ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول إني ملك . . .31}[ هود] ، وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم:{ لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير . . .188}[ الأعراف] .
{ فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم} أي إذا علمتم ان الله تعالى لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يتعين ان تؤمنوا بالله حق الإيمان بأن تعرفوه متصفا بصفات الكمال منزها عن المشابهة للحوادث ، ليس كمثله شيء ، وان تؤمنوا برسله فتعرفوا حقيقة رسائلهم وان تؤمنوا بالله حق الإيمان ، وبالرسل وما جاءوا به وتتقوا الله وتجعلوا وقاية لأنفسكم بالطاعات تقومون بها وتؤدونها على وجهها فلكم اجر عظيم .