ولقد كان الشح في موضع الإنفاق يسرى إلى المسلمين من اليهود الذين كانوا يجاورونهم ، ولذلك ذكر بعض شنائع اليهود لينفر المسلمون منهم ، ولا يقلدوهم في خسا ستهم ، فقال سبحانه وتعالى:{ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} .
لقد كان اليهود يحرضون المؤمنين على الشح وعدم الأنفاق في سبيل الله تعالى بطرق شتى ، وكانوا يحاولون ان ينالوا من إيمان اهل الإيمان ، فلما نزل قوله تعالى:{ من ذا الذي يقرض قرضا حسنا . . .11}[ الحديد] أخذوا يتهكمون على القرآن ، وعلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويصفون الله سبحانه بما لا يليق ، وذلك ليوهنوا قلوب المؤمنين ، ويشككوهم في دينهم ، أو ليبعثوا فيهم روح الشح . ويروى في ذلك عن ابن عباس انه لما نزلت هذه الآية:{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا . . .11}جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا:يا محمد ربك فقير يسأل عباده القرض{[637]} ، ويظهر ان ذلك قد تكرر منهم ، وتجرءوا به على ذات الله سبحانه ، او اتجهوا إلى تكذيب ما في القرآن بالتهجم على ما اشتمل عليه في هذا المقام ، ولقد بين سبحانه انه عليم بقولهم علم من يسمع القول ، ولذلك قال سبحانه:{ لقد سمع الله قول الذين قالوا . . .} وفي هذا التعبير بيان ان الله تعالى مطلع عليهم ، ومراقبة من يستمع إليهم ، وفي ذلك من التهديد ما فيه ، إذ إنه إشعار بأن ذا الجلال القوي القهار القادر على كل شيء والذي يملك الوجود ومن فيه وما فيه ، مستمع لما يقال في شأنه ، وما يتجرءون به عليه ، كما يقول القائل لمن يجده يتجرأ على عظيم:غنه يسمع قولك ويعلم به ، فارتقب عواقب ما تفعل ، واستشعر الهيبة والخشية:{ ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم60}[ النحل] وقد عقب سبحانه ذلك بنتائج تلك المراقبة ، وصرح بالتهديد الشديد في قوله تعالى:{ سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق} .
في هذا الكلام تهديد شديد لهم ، وذلك لأن المعنى:سنثبت عليهم في سجل الله تعالى قولهم هذا وتجرؤهم عليه سبحانه ، وليس المراد مجرد الكتابة ، بل المراد نتيجتها وهو الحساب عليها ، والجزاء من العذاب الأليم ، والتعبير بالكتابة كناية عن العلم المستتر الثابت الذي تترتب عليه نتائجه وثمراته ، لما تضمنته الكتابة من معنى العقاب الرادع الذي لا مناص منه عبر بالمضارع فقال سبحانه:"{ سنكتب ما قالوا} والتعبير ب{ ما قالوا} فيه إشارة إلى ما فيه من تجرؤ على الله تعالى ، وتهجم على مقامه الأعلى سبحانه .
وقد فسر سبحانه ذلك القول الجرئ بعمل جرئ من أسلافهم ، وقد ارتضوه ، فكان من الحق ان ينسب إليهم ، وهو ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله:{ وقتلهم الأنبياء بغير حق} وذلك لإثبات جرأتهم في الشر ، واستهانتهم بالحقائق الدينية ، وشرههم إلى الفساد ، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى بذلك فساد فعلهم بهذا القتل الشنيع ، وفساد قولهم بذلك القول الفاسد الجرئ على الله سبحانه و تعالى .
وهنا تثار ثلاثة أمور نتكلم فيها بإيجاز:
أولها:في قرن هاتين الجريمتين ، وقد أشرنا إلى أنهما من نوع واحد ، وهو التجرؤ على الله سبحانه وتعالى ، فالقديمة تجرؤ على رسالة الله ، والثانية تجرؤ على ذات الله ، وبذلك يكونون قد عتوا كبيرا ، وضلوا ضلالا بعيدا .
ثانيها:ان نسبة القتل إلى الحاضرين صحيحة لنهم رضوا به ، وغن لم يكونوا قد باشروه ، ومن رضي بجريمة فقد فعلها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها من غاب عنها ، ومن غاب غنها فرضيها كان كمن شهدها"{[638]} .
وثالثها:انه وصف قتلهم للنبيين بأنه بغير حق – مع ان هذا النوع من الإجرام لا يمكن ان يكون بحق أبدا ، وذلك للإشارة إلى شناعة أفعالهم ، وعظم شرهم ، وأنهم لا يبالون أكان فعلهم في موضعه ام في غير موضعه .
وقد قلنا عن هذه الكتابة هي للعقاب ، وقد قال سبحانه بعد ذلك مصرحا بالعقاب:{ ذوقوا عذاب الحريق} .
الذوق هو الإحساس ، وهو هنا الإحساس بالألم ، والتأصل في الذوق أن يكون في امر مرغوب في ذوقه وطلبه ، وهو هنا للألم ، فالتعبير فيه تهكم عليهم ، كما قال تعالى:{ فبشرهم بعذاب أليم24}[ الانشقاق[، والحريق النار الملتهبة ، وهذا الكلام فيه إيجاز حذف ، إذ ان السياق تضمن حذف كلمات دل فيها ما ظهر على ما طوي ، إذا المعنى سنكتب ما قالوا وما فعلوا ونلقيهم في جهنم وبئس المصير ، ونخاطبهم وهم يصلون نارها بقولنا:ذوقوا عذاب تلك النار الملتهبة وآلامها ، وذلك مثواهم .