/م180
( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال"دخل أبو بكر بيت المدارس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ، فقال أبو بكر:ويحك بافنحاص اتق وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فقال فنحاص:والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله تعالى من فقر وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه كما تضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان غنيا عنا لما استقرض منا كما يزعم صاحبكم وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا عنا لما أعطانا الربا .فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله .فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:فقال:يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:ما حملك على ما صنعت ؟ قال:يا رسول قال قولا عظيما يزعم أن الله تعالى شأنه فقير وهم عنه أغنياء .فلما قال ذلك غضبت لله تعالى مما قال فضربت وجهه .فجحد فنحاص فقال:ما قلت ذلك ، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر هذه الآية .وأنزل في أبي بكر وما بلغه من الغضب:( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) -الآية الآتية بعد آيات-
وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنه قال:ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما أنزل الله ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) قال سيقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني ، وأخرج الضياء وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:أتت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى:( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) فقالوا يا محمد:فقير ربك يسأل عباده القرض ؟ فأنزل الله الآية .فالظاهر أن هذه المجازفة في القول قد وقعت من غير واحد من يهود وما يقوله البعض ويجيزه الجمع يسند إلى القائلين والمجيزين جميعا والظاهر أنهم قالوا ذلك تهكما بالقرآن ورواية فنحاص ليس لها مناسبة ظاهرة .
سمع الله قول هؤلاء المجازفين لم يفته ولم يخف عليه فهو سيجزيهم عليه ، فهذا التعبير يتضمن التهديد والوعيد كما يتضمن قوله"سمع الله لمن حمده "البشارة والوعد بحسن الجزاء وكما يتضمن قوله:( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ) [ المجادلة:1] مزيد العناية وإرادة الإشكاء والإغاثة ، ذلك بأن قولك سمعت ما قال فلان يشعر بما لا يشعر به قولك علمت بما قال:والسمع هو العلم بالمسموعات خاصة بوجه خاص .وذهب بعض من كتب في علم الكلام إلى أن سمع الباري تبارك وتعالى يتعلق بجميع الموجودات ، لا يختص بالكلام أو بالأصوات ، وهو رأي تنكره اللغة ولا يعرفه الشرع وليس للرأي أو العقل أن يتحكم في صفات الله تبارك وتعالى بنظرياته وأقيسته .ومن فائدته التعبير بسمع الله لكلام عباده مراقبتهم له في أقوالهم ، ولا تتحقق هذه الفائدة بخصوصها على رأي ذلك المتكلم .
( سنكتب ما قالوا ) وعيد لهم على ذلك القول قالوه استهزاء بالقرآن .قرأ حمزة"سيكتب "بالياء المضمومة أي سيكتب قولهم هذا ويثبت عند الله تعالى فيعاقبهم عليه لأنه لا يفوته .وقرأ الباقون بالنون .قال الأستاذ الإمام قال مفسرنا كغيره أي نأمر بكتابته وغفلوا عن قوله:( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) فإنه كان من سلفهم فما معنى التعبير عن كتابته بصيغة الاستقبال ؟ لا بد من تفسيره بوجه يصح في الأمرين ، ولكن ضعف المسلمين في لغة القرآن هو الذي أوقعهم في هذا الضعف في الفهم والضعف في الدين وتبع ذلك الضعف في كل شيء .ولا يقال – كما زعم بعض المجاورين- إن الفعل إذا أسند إلى الله تعالى يتجرد من الزمان فإن الكلام في اختلاف التعبير .والمعنى الصحيح لهذه الكلمة"سنعاقبهم على ذلك حتما "فإن الكتابة هنا عبارة عن حفظه عليهم ، ويراد به لازمه وهو العقوبة عليه .والتوعد بحفظ الذنب وكتابته وإرادة العقوبة عليه شائع مستعمل حتى اليوم فلا يحتاج إلى دقة نظر .ولفظ الكتابة آكد من لفظ الحفظ لما فيه من معنى الاستتباب وأمن النسيان .وإنما ضم قتل الأنبياء- وهو أفظع جرائم هذا الشعب- إلى الجريمة التي سيق الوعيد لأجلها لبيان أن مثل هذا الكفر والتدهور ليس بدعا من أمرهم فإنه سبق لهم أن قتلوا الهداة المرشدين بعد ما جاءوهم بالبينات ، فهم يجرون في هذا على عرق وليس هو بأول كبائرهم ، وللإيذان بأن الجريمتين سيان في العظم واستحقاق العقاب ( كما قال صاحب الكشاف ) .
وأما إضافة القتل إلى الحاضرين فقد تقدمت حكمته في سورة البقرة ويشير إليه قول المفسرين إنهم يعدون قتلة لرضاهم بما فعله سلفهم وهذا تحويم حول المعنى الذي أوضحناه هناك ، وهو أن الأمم متكافلة في الأمور العامة إذ يجب على الأمة الإنكار على فاعل المنكر من أفرادها وتغييره أو النهي عنه لئلا يعشو فيها فيصير خلقا من أخلاقها أو عادة من عادتها فتستحق عقوبته في الدنيا كالضعف والفقر وفقد الاستقلال ، كما تستحق عقوبته في الآخرة بما دنس نفوسها ولذلك لعن الله تعالى الذين كفروا من بني إسرائيل بما عصوا وكانوا يعتدون وبين سبب ذلك بقوله:( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) [ الأنعام:82] .
ذلك بأن من أقر فاعل المنكر فلم ينهه ولم يسخط عليه تكون نفسه مشاكلة لنفسه تأنس به ثم لا يلبث أن يفعل المنكر ولو بعد حين ما لم يكن عاجزا عن ذلك بسبب من الأسباب الحسية ، كضعف الجسم أو قلة المال أي أن مثل هذا لا يترك المنكر لأنه رذيلة تدنس نفس فاعلها فيكون بعيدا من الخير غير مستحق لرضوان الله عز وجل .قال الأستاذ الإمام:وثم وجه آخر يجعل إسناد المنكر إلى مقره والراضي به إسنادا قريبا من الحقيقة وهو أن عدم النهي عن المنكر هو السبب في انتشاره وشيوعه لأن الميالين إلى المنكر لو علموا أن الناس يمقتونهم ويؤاخذونهم عليه لما فعلوه إلا ما يكون من الخلس الخفية .ولذلك كان الساكت على المنكر شريك الفاعل في الإثم- قال- كل هذا ظاهر فيمن يفعل المنكر في زمنه ولا ينكره ، وأما من يقع المنكر من قومهم قبل زمنهم كاليهود الذين نزلت هذه الآية وأمثالها فيها كقوله"فلم قتلتموهم "؟ فهم يتفقون مع من سبقهم في علة الجريمة ومبعثها من النفس وهو عدم المبالاة بالدين وقد كان هذا الخلف متفقين مع من سبقهم في الأخلاق والسجايا وينتسبون إليهم انتساب حسب وتشرف أي فهم جديرون بأن يكونوا على شاكلتهم .
وأقول:إن المتأخر ربما كان أضرى بالشر من المتقدم لتمكن داعية الشر من نفسه بالوراثة والقدوة جميعا .وقد حاول غير واحد من اليهود قتله صلى الله عليه وسلم كما كان آباؤهم يفعلون بل هم الذين قتلوه ، فإنه مات بالسم الذي وضعته له اليهودية في الشاة بخيبر فقد ورد في الحديث أنه قال لعائشة في مرض موته"يا عائشة ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري "{[391]} رواه البخاري في صحيحه .وفي رواية لغيره من حديث أبي هريرة"ما زالت أكلة خيبر تعاودني كل عام حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري "{[392]} .
الأستاذ الإمام:إن الله تعالى نبهنا بهذا الضرب من التعبير إلى أن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم بعين البصيرة ويطبقه على الشريعة فيستحسن منه ما استحسنت ويستقبح ما استهجنت ويسجل على المسيء من سلفه إساءته وينفر منها ، فإنه يعد عند الله تعالى مثله وشريكا له في إثمه ومستحقا لمثل عقوبته فعليكم باتخاذ الوسائل لإزالة المنكرات الفاشية ولا بد في ذلك من بذل الجهد ، وإعمال الروية والفكر ، وما علينا الآن في مثل هذه البلاد ، إلا الحيلة في بذل النصح والإرشاد ، بأي ضرب من ضروبه ، وكل أسلوب من أساليبه .
( ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) وقرأ حمزة"ويقول "، قال الأستاذ الإمام:الذوق عبارة عن الشعور بالألم أو ضده فمعنى ذوقوا تألموا .أما كيفية القول فلا نبحث فيها وإنما نعلم أن الله تعالى يوصل هذا المعنى إليهم .
أقول:وزعم بعض المستشرقين أن هذا الاستعمال لم يكن معروفا عند العرب قبل القرآن وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه من التوراة .وهو زعم باطل وبمثله يستدلون على اقتباس النبي من كتبهم ، فقد روي أن أبا سفيان قال لما رأى حمزة عليه رضوان الله مقتولا ( ذق عقق ) أي ذق عاقبة إسلامك أيها العاق لدين آبائك ولمن ثبت عليه من قومك فلم يدخلوا في الإسلام .نعم إن أصل الذوق وهو ما يكون باللسان لمعرفة طعم الطعام ثم توسعوا فيه فاستعملوه في غير ذلك من المحسوسات كقولهم ( ذقت القوس ) إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها .وقولهم ذقت الرمح إذا غمزتها قال ابن مقبل:
يهززن للمشي أوصالا منعمة *** هز الشمال ضحى عيدان يبرينا{[393]}
أو كاهتزاز رديني تذاوقه *** أيدي التجار فزادوا متنه لينا
كذا في لسان العرب .وفي الأساس ( أيدي الكماة ) بدل ( أيدي التجار ) وقال ابن الأعرابي:الذوق يكون بالفم وبغير الفم .ثم استعملوه في المعاني قال ابن طفيل:
فذوقوا كما ذقنا غداة محجَّرِ *** من الغيظ في أكبادنا والتحوُّبِ{[394]}
ومن هذا القبيل استعماله في معرفة جيد الشعر وأحاسن الكلام . "وعذاب الحريق "معناه عذاب هو الحريق .