/م180
( ذلك بما قدمت أيديكم ) أي ذلك العذاب الذي تذوقون مرارته أو حرارته بسبب ما قدمتم في الدنيا من الأعمال .عبر عن الأشخاص بالأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بها ، وليفيد أن ما عذبوا عليه هو من عملهم حقيقة لا مجازا .فإن نسبة الفعل إلى يد الفاعل تفيد من إلصاقه به ما لا تفيده نسبته إلى ضميره لأن الإسناد إلى اليد يمنع التجوز ، فمن المعهود أن يقال:فلان فعل كذا إذا أمر به أو مكن العامل منه وإن لم يباشره بنفسه ومتى أسند إلى يده تعين أن يكون باشر فعله بنفسه ، وإن لم يكن من عمل الأيدي ويدخل في قوله ( بما قدمت أيديكم ) جميع ما كان منهم من ضروب الكفر والفسوق والعصيان .
( وأن الله ليس بظلام للعبيد ) أي ، ذلك العذاب إنما يصيبكم بعملكم وبكونه تعالى عادلا في حكمه وفعله لا يجور ولا يظلم ، فيعاقب غير المستحق للعقاب ولا يجعل المجرمين كالمتقين والكافرين كالمؤمنين ، فلو كان سبحانه ظلاما لجاز أن لا يذوقوا ذلك العذاب على كفرهم به واستهزائهم بآياته وقتلهم لأنبيائه بأن يجعلوا مع المقربين في جنات النعيم وإذا لكان الدين عبثا:( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أن نجعل المتقين كالفجار ) [ ص:28] ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ؟ ساء ما يحكمون ) [ الجاثية:21] ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ) [ القلم:35] فالاستفهام الإنكاري في هذه الآيات يدل على أن ترك تعذيب أولئك الكفرة الفجرة هو من المساواة بين المحسن والمسيء ووضع الشيء في غير موضعه وناهيك به ظلما كبيرا .فبهذا كله تعلم أن استشكال عطف نفي الظلم على جرائمهم في غير محله والمبالغة في صيغة"ظلام "لإفائدة أن ترك عقوبة مثلهم يعد ظلما كبيرا أو كثيرا .
قال الأستاذ الإمام:يعني أن هذه العقوبة عدل منه سبحانه وأشار بصيغة المبالغة ( ظلام ) إلى أن مثل هذه التسوية لا تصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه .وقال غيره:إنه لما كان القليل من الظلم يعد كثيرا بالنسبة إلى رحمته الواسعة عبر في نفيه بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة .