{ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم}هذه بعض أعمال أسلاف الذين كانوا يحاجون النبي صلى الله عليه وسلم ،وقد ذكرت تلك العمال للدلالة على انهم لا يطلبون الحق ،وغنما يلجون في الباطل ،وقد ذهبت لجاجتهم إلى درجة ان يقتلوا الداعين إلى الحق ،فقتلوا بعض النبيين ،وقتلوا بعض الذين يدعون إلى القسط . وقد ذكر سبحانه لهم وصفا ،ثم ذكر من أعمالهم عملين يتصلان بوصفهم ؛أما الوصف فهو انهم يكفرون بآيات الله ،أي يكفرون بالحجج والبينات المثبتة لوحدانية الله ،ولرسالة رسله وصدق دعواتهم ،فهم لا يكفرون فقط بالله ،بل يكفرون مع ذلك بالآيات الدالة المثبتة ،وهذا أقصى ما يصل إليه الضالون ،لا يهتدون إلى الحق ،ويغلقون عقولهم فلا يمكن ان تصل إليها دعوة الحق ،ويمنع الغرض مداركهم من ان تفهم ما تشير إليه الآيات البينات وأمثال هؤلاء لا تجدي معهم محاجة ، فهم قوم بور ،كما عبر القرآن الكريم عن أمثالهم ،وإنهم لكفرهم بالحق وعنادهم ،وصم آذانهم عن ان تستمع إلى الداعي إليه اندفعوا فعملوا عملين وهما:قتل النبيين ،وقتل الدعاة إلى القسط ؛والقسط هو الحق والميزان والاعتدال والمعقول في كل شئ ،وهؤلاء اليهود قد قتلوا بعض النبيين ؟ والجواب عن ذلك انهم استهانوا ،ومن فعل ذلك مع البعض فقد اعتدى على مقام النبوة فكأنما قتل كل الأنبياء ،كما قال تعالى:{ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . . .32}[ المائدة] .
ولماذا ذكر سبحانه وتعالى كلمة{ بغير حق}مع ان قتل الأنبياء لا يمكن ان يكون بحق أبدا ؟والجواب عن ذلك ان هذا تصريح بموضع الاستنكار ، فموضع الاستنكار اعتداؤهم على الحق بالاعتداء على النبيين ،وللإشارة على انهم بما طمس الله على بصائرهم صاروا أعداء للحق لا يألفونه ،ولا يريدونه ولا يخلصون في طلبه .وذكر سبحانه كلمة الحق الثابت ،والحق المزعوم ، والحق الموهوم ،أي لم يكونوا معذورين بأي نوع من أنواع العذر في هذا الاعتداء ،فلم يعتقدوا انه الحق ،ولم يزعموه ،ولم يتوهموه ،بل فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون انهم على الباطل ،فكان فعلهم إجراما في باعثه ،وإجراما في حقيقته ،وأبلغ الإجرام في موضوعه .
هذا قتل الأنبياء ،وهو أفظع جرم في هذا الوجود ،ويليه ومن جنسه قتل الدعاة إلى الحق ،والقسط الذي هو الميزان في كل شئ ،فإن قتل هؤلاء كقتل النبيين منشؤه صمم الآذان عن سماع الحق ،وإعراض القلوب ،والتململ من اهل الحق والتبرم بهم .وقد قال صلى الله عليه وسلم:"بئس القوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ،بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ،ولا ينهون عن المنكر ،بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية"{[485]} !وروى ان أبا عبيدة عامر بن الجراح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:أي الناس عذابا يوم القيامة ؟فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"رجل قتل نبيا ،أو من امر بمعروف ونهى عن المنكر"{[486]} .
ولماذا قال سبحانه:{ من الناس}في قوله:{ الذين يأمرون بالقسط من الناس}مع انهم حتما من الناس ؟والجواب عن ذلك ان هذا للإشارة إلى انهم عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء إشارة إلى بيان منزلتهم ،وأنهم يعملون عمل النبيين وأنهم حقيقة ورثة الأنبياء ،بالقيام بحق هذا الواجب المقدس ؛فإن لم يقوموا بهذا الواجب فليس لهم من وراثة الأنبياء شئ .
وقد ذكر سبحانه عقاب هؤلاء وهو العذاب الأليم ،فقال تعالى:{ فبشرهم بعذاب أليم}أي ان جزاءهم في الآخرة عذاب مؤلم ينزل بهم .
وفي هذا الجزء من الآية بحثان لفظيان:
أحدهما:دخول الفاء في خبر الذين وهو:{ فبشرهم}وقد دخلت الفاء لأن الجملة طلبية ،والجملة الطلبية تحتاج إلى الفاء لتصلح خبرا في كثير من ألأحيان ؛ولن الاسم الموصول في معنى الشرط ،وخبره في معنى الجواب ،وإذا كان الجواب جملة طلبية فإن الفاء تدخله .
والثاني:هو في التعبير بقوله تعالى عن العذاب:{ فبشرهم} مع ان البشارة لا تكون إلا في الأخبار السارة ؛لأن البشارة والبشرى الخبر السار الذي تنبسط له بشرة الوجه ؛والجواب عن ذلك ان هذا التعبير من قبيل التهكم ؛وذلك لن هؤلاء الضالين من بني إسرائيل وغيرهم مع انهم جحدوا ،وفعلوا بالأنبياء ودعاة الحق ما فعلوا ،وكانوا يقولن:نحن أبناء الله وأحباؤه ،وأن لهم البشرى بجنسهم لا بعملهم ؛فالله يقول له:{ فبرهم بعذاب اليم}أي ان البشرى التي يرتقبونهما بسبب المحبة التي يدعونها هي عذاب أليم وليست بنعيم مقيم ،وليس هذا العذاب في الآخرة فقط ،بل إنه في الدنيا بفساد جماعتهم ؛ ولذا قال سبحانه:{ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين}:
الإشارة إلى هؤلاء الذين يحاجون بالباطل ،ولا يسلمون وجوههم لله ،ولا يذعنون للحق ،ويقتلون الأنبياء ،ويقتلون دعاة الحق ؛هؤلاء بسبب هذه الصفات وهذه العمال حبطت أعمالهم ،أي بطلت وأصبحت لا تنتج إلا شرا لصاحبها ،كالدابة التي تأكل شر الثمار حتى ينتفخ بطنها من سوء ما تأكل ،وحبط العمال ان لا تنتج خيرا لصاحبها ،وان يكون الجزاء عليها شرا ،وان تكون نتيجتها سوءا ،فيحاسب الله الفاعلين على نياتهم التي طويت في صدورهم وعملوا العمال باسم الخير ،وهي للشر ،وأولئك الأشرار يبطل الله أعمالهم ويحبطها ،فجزاؤها شر في الآخرة بعذاب اليم ،وفي الدنيا بذهاب دولتهم وسلطانهم ؛لأن الإعراض عن الحق ،ومعاقبة من ينطق بكلمة الحق ،وقتل الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،من شانه ان يفسد الدولة ،وإذا فسدت الجماعة ذهبت القوة ،ولذا قال سبحانه:{ وما لهم من ناصرين}أي ليس لهم أي ناصر ،فالنفي المستغرق مع تأكيده بمن الزائدة ،يفيد انه لا يمكن ان يكون لكن يقتل الداعي إلى الخير ناصر مطلقا ؛لن الناس لا يثقون به ويتقونه ولا يطمئنون إليه ،ولا يمكن ان يعيش امرؤ هنيئا إلا بثقة من الناس .ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"خير الناس آمرهم بالمعروف ،وأنهاهم عن المنكر ،واتقاهم لله ،وأوصلهم للرحم"{[487]} .