ثمّ تقول: ( اُولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ) فلو فرض أنّهم عملوا بعض الأعمال الصالحة فإنّها ستمحى وتزول بسبب الذنوب الكبيرة التي يرتكبونها .
والثالث أنّ الآية تقول: ( وما لهم من ناصرين ) فلا أحد يحميهم من العقوبات الإلهيّة التي تنتظرهم ولا أحد يشفع لهم في ذلك اليوم .
وسبق وأن قلنا في تفسير الآية 61 من سورة البقرة أنّ هذه الآية تشير إلى تاريخ اليهود المضطرب ،فهم فضلاً عن إنكارهم آيات الله تجرّؤا على قتل الأنبياء ،كما كانوا يقتلون أتباع الأنبياء من المجاهدين ،ولكنّ هذا العمل لا يختصّ بهم وحدهم ،بل يصحّ بالنسبة إلى جميع الأقوام التي فعلت وتفعل فعلهم .
بحوث
1وضعت الآية الداعين إلى العدالة والآمرين بالمعروف في مصافّ الأنبياء .وترى الكفر بآيات الله ،وقتل الأنبياء ،وقتل هؤلاء ،على مستوى واحد ،وهذا منتهى اهتمام الإسلام بنشر العدالة في المجتمع .
ويتبيّن من الآية الثانية شدّة العقوبات التي ستنزل بالذين يقتلون أمثال هؤلاء الرجال الصالحين .وقد سبق أن قلنا إنّ «الحبط » لا يشمل جميع الذنوب ،بل للذنوب الكبيرة التي تذهب بآثار الأعمال الصالحة{[553]}وأخيراً عدم قبول أيّة شفاعة بحقّهم ،كدليل على عظم ذنوبهم .
2المقصود من ( بغير حقّ ) ليس إمكان جواز قتلهم بحق ،بل المقصود هو القول بأنّ قتل الأنبياء كان دائماً ظلماً وبغير حقّ .فعبارة «بغير حقّ » قيد توضيحيّ للتوكيد .
3يستفاد من عبارة ( فبشّرهم بعذاب أليم ) أنّها تشمل الكفّار المعاصرين للنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً ،مع أنّنا نعلم أنّ هؤلاء لم يقتلوا أحدا من الأنبياء .وقد أشرنا من قبل إلى السبب وقلنا إذا رضي أحد بفعال قوم وسلوكهم وأفكارهم ،فإنّه يكون شريكاً لهم في أعمالهم الخيّرة والسيّئة .ولمّا كانت هذه الجماعة المعاصرة للنبيّ من الكفّاروخاصّة اليهودتؤيّد أعمال أسلافهم وجرائمهم ،فهم يشاركونهم فيما ينتظرهم من العقاب أيضاً .
4«البشارة » هي إخبار الرجل خبراً سارّاً يبسط أسارير وجهه .واستعمال هذه الكلمة في الإخبار بالعذاب في هذه الآية وفي غيرها إنّما هو نوع من التهديد والاستهزاء بأفكار المذنبين .وهذا أشبه بما هو متداول بيننا اليوم ،إذ نقولمستهزئينلمن أساء الفعل: حسناً ،سوف نكافؤك على ذلك .
5ورد في حديث عن أبي عبيدة الجراح أنّه قال سألت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن أيّ الناس أشدّ عذاباً في الآخرة ؟
فقال: رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف أو نهى عن منكر ثمّ قرأ ( ويقتلونالنبيّين بغير حقّ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ) ثمّ قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة ،فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم ،وهو الذي ذكره الله تعالى: ( فبشرهم بعذاب أليم ){[554]} .
سبب النّزول
جاء في تفسير «مجمع البيان » عن ابن عبّاس أنّه حدث على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن ارتكب يهودي الزنا مع امرأة محصنة ،على الرغم من أنّ ما جاء في التوراة يقضي بالرجم على أمثال هؤلاء ،فإنّهما لم ينالا عقاباً لأنّهما كانا من الأشراف ،واتّفقا على الرجوع إلى رسول الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليكون هو الحكم ،آملين أن ينالا عقاباً أخف .
غير أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيّد العقاب المعيّن لهما ،فاعترض بعض كبار اليهود على حكم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنكروا أن يكون في اليهود مثل هذا العقاب .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) «بيني وبينكم التوراة » فوافقوا ،واستدعوا «ابن صوريا » أحد علمائهم ،من فدك إلى المدينة ،وعند وصوله عرفه النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسأله: أأنت ابن صوريا ؟قال: نعم .فقال: أأنت أعلم علماء اليهود ؟قال: هكذا يحسبونني ،فأمر رسول الله أن يفتحوا أمامه التوراة حيث ذكر الرجم ليقرأه ،ولكنّه لمّا كان مطّلعاً على تفاصيل الحادث قرأ جانباً من التوراة ،وعندما وصل إلى عبارة الرجم وضع يده عليها وتخطّاها ولم يقرأها وقرأ ما بعدها .فأدرك «عبد الله بن سلام »الذي كان من علماء اليهود ثمّ أسلممكر ابن صوريا وقام إليه ورفع يده عن الآية وقرأ ما كان قد أخفاه بيده ،قائلاً: تقول التوراة: على اليهود ،إذا ثبت زنا المحصن بالمحصنة رجماً .فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن ينفّذ العقاب بحقّهما بموجب شريعتهم .فغضب بعض اليهود ،فنزلت هذه الآية بحقّهم{[555]} .