{ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء38فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين39قال رب انى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء40قال رب اجعل لي آية قال آيتك الا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار41}
في الآيات السابقة ذكر سبحانه قصة ولادة مريم ،وفي هذه الآيات يقص ولادة يحيى ،وإن ولادة مريم كانت ذات صلة وثيقة بولادة يحيى عليه السلام ،تتدرج في خوارق العادات ،تبتدئ بالقريب من المألوف ثم تنتهي بخوارق لم يكن للناس بها عهد من قبل .
وانتهينا في قصة مريم البتول إلى ان نبي الله زكريا كفلها ،وأنها تربت منذ صغرها في المسجد ،بيت الله المقدس ،وان الله أفاض عليها بالخير والنعم الظاهرة والباطنة ،فملأ قلبها إيمانا وروحانية ،وغذاها بلبان المعرفة ،وبغذاء مادي طيب .
ولقد كان زكريا ،ومريم تدرج في مدارج الصبا ،شيخا هرما يئس من الولاد ،ولكنه رأى مريم وتنشئتها على الإيمان والمعرفة ومحبة من الله تعالى ،ورآها ترزق بغير حساب ،ورأى منها مع صغر السن نجابة وتفويضا وإيمانا راسخا ،حن إلى الولد حنينا ،ورغب في الذرية ،وكان بين حالين متناقضين:حال تلك الرغبة وعدم اليأس من رحمة الله القادر على كل شئ ،وحال الكبر الذي أصابه ،والشيخوخة الفانية التي هو فيها ؛ولكنه قد تحرك فيه عامل الرغبة عندما تكلم مع مريم في المحراب يسائلها عما عندها من رزق كلما دخل عليها ، ؛ولذا قال سبحانه وتعالى في قصته .
{ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء}ففي هذه الحال التي رأى فيها مريم تغلب فيه جانب الرجاء على جانب اليأس ،ولذا قال تعالى:{ هنالك دعا زكريا ربه}أي في هذا المكان وهو المحراب الذي كان يلتقي فيه بمريم الفينة بعد الفينة ،ويسائلها فيه ، وتتكلم بلسان البر والتقوى ،تحركت غريزة الأبوة في ذلك المكان المقدس ،فدعا ربه .والتعبير بدعا ربه إشارة إلى شعوره بقدرة الله تعالى على كل شئ ،إذ هو ربه الذي ذراه ونماه صغيرا ،حتى بلغ أشده ثم تولاه حتى بلغ من الكبر عتيا ،فقد اتجه إذن في دعائه إلى الرب القادر العليم الذي أبدع كل شئ على غير مثال سبق ،قال:{ رب}أي خالقي الذي خلقني ،وخلق كل شئ من طين ،وصدر عنه كل ما في الوجود بإرادته العالية:{ هب لي من لدنك}أي أعطني انت عطاء كريما لا سبب له إلا إرادتك ،ولا باعث عليه إلا رحمتك ،فلا يكون المر فيه جاريا على مقتضى الأسباب ومسبباتها ،إنما يكون على مقتضى الهبة المجردة ،والعطاء الخالص الذي لا سبب له إلا إرادتك الأزلية وإلا رحمتك:{ من لدنك}أي من عندك ؛أي السبب يكون من عندك لا من عندي ؛لأن الأسباب عندي قد زالت ،ولم يعد إلا سبب منك ،وإلا معجزة تكون فيها المانح المعطى من غير أي علة او ترتيب . والتعبير ب{ لدنك}التي لا تكاد تستعمل في القرآن إلا في جانب الله تعالى يفيد العندية العالية السامية ،لا العندية القريبة المقارنة ،ولا العندية المقاربة
ودعاء نبي الله ان يهب له ذرية طيبة ،فلم يذكر الله سبحانه عنه في هذه الآية سوى انه يطلب ذرية طيبة ،والذرية قد بينا معناها من قبل .والطيبة:هي الذرية الحسنة المرغوب فيها التي تكون ذات اثر طيب ؛لأن الطيب هو الأمر الحسن المحبوب المرغوب فيه الذي لا ينتج إلا خيرا ،ويأتي بخير الثمرات وأحسن النتائج ؛ومن ذلك قوله تعالى:{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا . . .58}[ الأعراف] .
وبعد ان ضرع هذه الضراعة بدأ رجاؤه في الإجابة بقوله:{ إنك سميع الدعاء}أي إنك تعلم بدعائي علم من يسمع ،وغن المر إليك إذ علمته وسمعته ؛فإن أجبت فبرحمتك ،وغن لم تجب فبحكمتك ،فأنت العليم الحكيم ،والرحمن الرحيم .والصيغة تفيد قرب الرجاء وإمكان الإجابة .
وفي هذه السورة لم يبين سبحانه شكل الدعاء أكان جهرا ام كان خفيا ،وفي سورة مريم بين حاله ، وبين نوع ما يطلب من الذرية ،فقال سبحانه:{ كهيعص1 ذكر رحمة ربك عبده زكريا2إذ نادى ربه نداء خفيا3قال رب إني وهن عظمي مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا 4وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا5يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا6}[ مريم] .
وفي هذا النص الكريم يتبين انه مع رجائه كان يذكر شيخوخته الفانية ،وكون امرأته عاقرا لا تلد ، ومع ذلك تغلب عليه جانب الرجاء ،فدعا ذلك الدعاء ،وضرع على الله تعالى تلك الضراعة .