قوله تعالى:{ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء} معناه أنه عندما رأى زكريا حسن حال مريم ومعرفتها بالله وإضافتها الأشياء إليه دعا ربه متمنيا لو يكون له ولد صالح مثلها هبة من لدنه تعالى ومن محض فضله .وقد تقدم الكلام في تفسير لدن ولدى .وقد فسر بعضهم"هنالك "بالزمان .قال الأستاذ الإمام:وهو ضعيف والاستعمال الفصيح فيها إنها للمكان أي في ذلك المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه .ورؤية الأولاد النجباء تشوق نفس القارئ وتهيج تمنيه لو يكون له مثلهم .وذهب المفسر ( الجلال ) كغيره إلى أن الذي بعث زكريا إلى الدعاء هو رؤيته فاكهة الصيف في الشتاء وعكسه فإن ذلك من قبيل مجيء الولد من الشيخ الكبير والمرأة العاقر وليس في الآية ما يدل عليه ، وقد يعترض عليه بأن فيه إشعارا بأن زكريا لم يكن قبل ذلك عالما بإمكان الخوارق ولا يقول بهذا مؤمن بنبوته .فإن قيل إن تعجّبه بعد بقوله"رب أنى يكون لي غلام "قد يشعر بشيء من ذلك .فالجواب إن هذا يؤيد امتناع أن تكون رؤية الخوارق هي التي أثارت في نفسه هذا الدعاء .
ثم قال الأستاذ الإمام في معنى هذا الدعاء وهذا التعجب من استجابته أحسن قول وهاكه بالمعنى مع شيء من التصرف:إن زكريا لما رأى ما رآه من نعمة الله على مريم في كمال إيمانها وحسن حالها ولا سيما اختراق شعاع بصيرتها لحجب الأسباب ، ورؤيتها أن المسخر لها هو الذي يرزق من يشاء بغير حساب ، أخذ عن نفسه ، وغاب عن حسه ، وانصرف عن العالم وما فيه ، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته ، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته ، وإنما يكون الدعاء جديرا بأن يستجاب إذا جرى به اللسان بتلقين القلب ، في حال استغراقه في الشعور بكمال الرب ، ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة ، وقد أوذن بسماع ندائه ، واستجابة دعائه ، سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة ، وهي على غير السنة الكونية فأجابه بما أجابه ، وذلك قوله عز وجل .