{ فنادته الملائكة} قرأ حمزة والكسائي فناداه الملائكة بالتذكير والإمالة والباقون فنادته بتاء التأنيث أي جماعة الملائكة والعرب تؤنث وتذكر المسند على جمع الذكور الظاهر لا سيما إذا كان في لفظه تاء كالطلحات .ورسم المصحف يتفق مع القراءتين لأنه رسم فيه بالياء غير منقوطه هكذا"فنادته "ومن سننه رسم الألف الممالة ياء لأنها منقلبة عنها وجمهور المفسرين يقولون عن المراد بالملائكة جبريل ملك الوحي وقالوا إن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع تريد به الجنس .
قال ابن جرير:يقال خرج فلان على بغال البريد وإنما ركب بغلا واحدا وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وكما يقال ممن سمعت هذا الخبر ؟ فيقال من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد .وقد قيل إن منه{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} [ آل عمران:173] والقائل كان فيما ذكروا واحدا .ثم قال بعد ذلك:وأما الصواب من القول في تأويله فأن يقال إن الله جل ثناؤه أخبر أن الملائكة نادته والظاهر من ذلك أنها جماعة الملائكة دون الواحد وجبريل واحد .فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل ، ما وجد إلى ذلك سبيل ، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني .وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم منهم قتادة والربيع بن أنس وعكرمة ومجاهد وجماعة غيرهم:اه .
أما قوله:{ وهو قائم يصلي في المحراب} فالظاهر من معناه المتبادر عندي انه نودي وهو قائم يدعو بذلك الدعاء الذي ذكر هنا مختصرا وذكر في سورة مريم بأطول مما هنا .فالصلاة دعاء والدعاء صلاة وقد عطف"فنادته الملائكة "على ما قبله بالفاء وحكاية ما قبله صريحة في كون الدعاء وقع في المحراب الذي كانت مريم فيه .فقول الرازي إن الآية تدل على أن الصلاة مشروعة عندهم غريب جدا ، وأي دين لا صلاة فيه ولا دعاء ؟
{ أن الله يبشرك بيحيى} أي بولد اسمه يحيى ، كما في سورة مريم{ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} .قرأ ابن عامر وحمزة{ إن} بكسر الهمزة لأن النداء قول ، والباقون بفتحها على تقدير الباء أي نادته بأن الله يبشره وفيه إشعار بان البشارة محكية بالمعنى لا باللفظ ، فما هنا لا ينافي ما في سورة مريم من التفصيل .قرأ حمزة والكسائي يبشرك كينصرك والباقون بالتشديد ؛ ويحيى تعريب لكلمة"يوحنا "في لغة بني إسرائيل .وهي من مادة الحياة فالاسم يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ومن آل يعقوب ما كان فيهم من النبوة والفضل .
وقد وصف تعالى هذا المبشر به بعدة صفات وردت حالا منه وهي قوله:{ مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} أما تصديقه بكلمة من الله فهو تصديقه بعيسى الذي يبشر الله به بكلمة منه أو الذي يولد بكلمة الله"كن "فيكون أي بغير السنة العامة في توالد البشر ، وهي أن يولد الولد بين أب وأم .وقال أبو عبيدة أي المراد بالكلمة هنا الكتاب أو الوحي .لأن الكلمة تطلق على الكلام وإن كان كثيرا ، وقيل غير ذلك .وأما السيد فهو من يسود في قومه بالعلم أو الكرم أو الصلاح وعمل الخير .والحصور وصف مبالغة من مادة الحصر ومعناها الحبس فهو من يحبس نفسه ويمنعها مما ينافي الفضل والكمال اللائق بها .ويطلق على الكتوم للأسرار وعلى من يمتنع من النساء للعنة أو للعفة .وأكثر المفسرين على أن هذا الأخير هو المراد هنا .ولذلك بحثوا في كون ترك التزوج أفضل من فعله أم لا ؟ وقال الرازي:احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل:ونقول إن الآية ليست نصا ولا ظاهرة في ذلك ، وإذا سلمنا انها تدل عليه فلا نسلم أنها تدل على أن ترك التزوج أفضل مطلقا .وليس يحيى بأفضل من أبيه ولا من إبراهيم الخليل ومحمد خاتم النبيين والمرسلين .وسنة النكاح أفضل سنن الفطرة لأنها قوام هذه الحياة الدنيا وسبب بقاء الإنسان الذي كرمه الله وخلقه في أحسن تقويم وجعله خليفة في الأرض إلى الأجل المسمى في علم الله .ومعنى كونه نبيا معروف وأما كونه من الصالحين فمعناه أنه من الأنبياء الصالحين أو من القوم الصالحين ، وهم أهل بيته .