قال الله تعالى:( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ) أي:خاطبته الملائكة شفاها خطابا أسمعته ، وهو قائم يصلي في محراب عبادته ، ومحل خلوته ، ومجلس مناجاته وصلاته . ثم أخبر عما بشرته به الملائكة:( أن الله يبشرك بيحيى ) أي:بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى . قال قتادة وغيره:إنما سمي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان .
وقوله:( مصدقا بكلمة من الله ) روى العوفي وغيره عن ابن عباس . وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسدي والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغيرهم في هذه الآية:( مصدقا بكلمة من الله ) أي:بعيسى ابن مريم ، قال الربيع بن أنس:هو أول من صدق بعيسى ابن مريم ، وقال قتادة:وعلى سننه ومنهاجه . وقال ابن جريج:قال ابن عباس في قوله:( مصدقا بكلمة من الله ) قال:كان يحيى وعيسى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم:إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى:تصديقه له في بطن أمه ، وهو أول من صدقعيسى ، وكلمة الله عيسى ، وهو أكبر من عيسى عليه السلام ، وهكذا قال السدي أيضا .
وقوله:( وسيدا ) قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم:الحكيم ، وقال قتادة:سيدا في العلم والعبادة . وقال ابن عباس ، والثوري ، والضحاك:السيد الحكيم المتقي ، وقال سعيد بن المسيب:هو الفقيه العالم . وقال عطية:السيد في خلقه ودينه . وقال عكرمة:هو الذي لا يغلبه الغضب . وقال ابن زيد:هو الشريف . وقال مجاهد وغيره هو الكريم على الله ، عز وجل .
وقوله:( وحصورا ) روي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، وعطية العوفي أنهم قالوا:هو الذي لا يأتي النساء . وعن أبي العالية والربيع بن أنس:هو الذي لا يولد له . وقال الضحاك:هو الذي لا ولد له ولا ماء له .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في الحصور:الذي لا ينزل الماء ، وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبا جدا فقال:حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي ، حدثني سعيد بن سليمان ، حدثنا عبادة - يعني ابن العوام - عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن العاص - لا يدري عبد الله أو عمرو - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:( وسيدا وحصورا ) قال:ثم تناول شيئا من الأرض فقال:"كان ذكره مثل هذا ".
ثم قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، أنه سمع سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول:ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا ، ثم قرأ سعيد:( وسيدا وحصورا ) ثم أخذ شيئا من الأرض فقال الحصور ما كان ذكره مثل ذي وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف إصبعه السبابة . فهذا موقوف وهو أقوى إسنادا من المرفوع ، بل وفي صحة المرفوع نظر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء:اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان ) حصورا ) ليس كما قاله بعضهم:إنه كان هيوبا ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء ، وقالوا:هذه نقيصة وعيب ولا تليق بالأنبياء ، عليهم السلام ، وإنما معناه:أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها كأنه حصر عنها ، وقيل:مانعا نفسه من الشهوات . وقيل:ليست له شهوة في النساء .
وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها:إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل ، كيحيى ، عليه السلام . ثم هي حق من أقدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة علياء ، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة ، بتحصينهن وقيامه عليهن ، واكتسابه لهن ، وهدايته إياهن . بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو ، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال:"حبب إلي من دنياكم ".
هذا لفظه . والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء ، بل معناه كما قاله هو وغيره:أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال:( هب لي من لدنك ذرية طيبة ) كأنه قال:ولدا له ذرية ونسل وعقب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
[ وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد زغبة ومحمد بن سلمة المرادي قالا حدثنا حجاج ، عن سلمان بن القمري ، عن الليث بن سعد ، عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه ، إن شاء أو يرحمه ، إلا يحيى بن زكريا ، فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين "، ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال:"كان ذكره مثل هذه القذاة "] .
قوله:( ونبيا من الصالحين ) هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته ، وهي أعلى من الأولى كقوله تعالى لأم موسى:( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) [ القصص:7]