{ و أنزل الفرقان}:{ الفرقان} هنا هو:القرآن ، و كرر ذكره بعد أن ذكرت التوراة و الإنجيل ، للإشارة إلى الاتصال الكامل بين شرائع الله تعالى ، و أنه تتميم لما سبقه ، و أنه كمال هذه الشرائع كلها ، و أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي آخر لبنة في صرح الشرائع الإلهية ، و بنزولها كمل دين الله{[449]} . و كرر ذكره أيضا لوصفه بالفرقان ، فهو أتى بمعنى جديد لا يغني عنه ذكر الكتاب أولا . و وصف القرآن الكريم بالفرقان ، لأنه فارق بين الحق و الباطل ، و مبين للصادق من الكتب السابقة ، و لأنه فارق بين عهدين في الرسائل الإلهية ، فقد كانت رسالات الرسل من قبل لأمم خاصة ، و من بعد كانت الرسالة المحمدية للناس كافة ، فمن قبله كانت الرسالات لعلاج أحوال عارضة وقتية ، أما رسالة القرآن فعلاج لأدواء الإنسانية ، و تقرير الصالح لها مهما تختلف الأمصار ، و تتباعد الأقطار ، و لأنه ميزان الحقائق إلى يوم القيامة ، و لذلك قال تعالى:{ الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان . . . 17} ( الشورى ) .
{ إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد و الله عزيز ذو انتقام} ذكر سبحانه عقاب الذين يكفرون بآيات الله ، أي معجزاته الباهرة ، و آياته المتلوة القاهرة ، بعد أن ذكر كتب الديانات الثلاث:اليهودية ، و النصرانية ، و الإسلام ، للإشارة إلى أن الذين يكفرون بمحمد إنما يكفرون بشرائع الله المنزلة كلها ، لأنه شريعته كمالها ، و بها تمامها و ختامها ، و للإشارة إلى أن اليهود و النصارى الذين لا يتبعون محمدا ، إنما يكفرون بحقيقة النصرانية نفسها ، و اليهودية ذاتها إذ يكفرون بمحمد صلى الله عليه و سلم ،فليست رسالة محمد إلا الخطوة الأخيرة في الشرائع الإلهية ، و هي الكمال ، و قد بشرت به الكتب السابقة كلها ، فالكفر به كفر بها ، و الإسلام سيمر بالشرع الإلهي إلى أقصى غايته ، و لو كان موسى حيا ما وسعه إلا الإيمان بما جاء به محمد كما أشار بذلك النبي صلى الله عليه و سلم .
و من أجل هذا كان الذين يكفرون بمحمد لهم عذاب شديد ، و خصوصا إذا كانوا من اليهود و النصارى ، لأنهم حينئذ يكفرون بكل آيات الله تعالى .
ثم وصف سبحانه ذاته الكريمة بما يفيد انه غالب ، و أنه لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فقال:{ و الله عزيز ذو انتقام} أي أنه سبحانه بعزته غالب على كل شيء ، مسيطر على كل شيء ، ليس فوقه احد ، و هو القاهر فوق عباده .و هو انتقام ، أي أنه سبحانه له انتقام شديد لا يدرك كنهه ، و لذلك نكر الانتقام . و الانتقام إنزال النقمة و الشدة في مقابل ما يرتكبه الشخص ، فإن كان من عادل حكيم كان عقوبة عادلة ، و جزاء وفاقا ، و كذلك يكون عقاب الله تعالى ، فانتقام الله ليس تشفيا و شفاء غيظ كما هو الشأن في البشر ، بل انتقام الله عقوبة عادلة ، و قصاص رادع . و عبر ب{ ذو انتقام} ، أي صاحب انتقام ، للإشارة إلى أن هذا الانتقام في قدرته سبحانه و سلطانه ينزله أنى شاء ، و متى شاء بمقتضى حكمته وإرادته وقدرته ، وعلمه الذي يحيط بكل شيء ، و لذا قال بعد ذلك: