{ نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه} "الكتاب "هو القرآن الكريم ، و إن أكثر السور التي تبتدئ بتلك الحروف تقترن فيها الحروف بالتنويه بذكر القرآن ، و إعلاء شأنه ، مما جعل المفسرين يعتبرون تلك الحروف أسماء للسور ، سماها القرآن بها ، و فواصل محكمة بين سورة و أخرى من سور القرآن الكريم ، و قد أشرنا إلى ذلك من قبل . و قد عبر – سبحانه و تعالى – عن نزول القرآن الكريم ب{ نزل} للإشارة إلى أن النزول كان تدريجيا ، و لم يكن دفعة واحدة ، إذ إن التنزيل يدل على التدرج في النزول ، و كذلك كان القرآن الكريم ، فقد نزل منجما ينزل في الوقائع ، أو الأسئلة ليكون السبب الذي اقترن بنزوله معينا على فهمه و إدراك بعض مغازيه .
و قد ذكر تنزيل القرآن مقترنا بأمرين متصلا بهما:
أولهما:أنه حق في ذاته ، و مبين للحق مشتمل عليه ، و داع إليه ، فقال الله تعالى:{ بالحق}
أي مصاحبا له مقترنا بما ملازما له ، فهو حق لأنه نزل من عند رب العالمين ، و اشتمل على الحق ، فكل ما فيه من قصص و أخبار و شرائع و أحكام و عقائد حق لا شك فيه ، و هو يدعو إلى الحق و العدل ، فهو الحق الملازم للحق ، الناصر للحق .
و ثاني الأمرين:أنه مصدقا لما بين يديه ، أي الشرائع الإلهية التي سبقته ، و لذا قال سبحانه:{ مصدقا لما بين يديه} فهو في لبه و معناه مبين لكل الشرائع مصدقا لصدقها ، و هذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في لبها و معناها و أصولها ، و لذا قال سبحانه:{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تفرقوا فيه . . . 13} ( الشورى ) . فالإسلام هو لب الأديان و غايتها ، و لذا قال سبحانه:{ إن الدين عند الله الإسلام . . . 19} ( آل عمران ) .
{ و أنزل التوراة والإنجيل} هذا تصريح ببعض ما تضمنته الجملة السامية السابقة ، إذ قد تضمنت الجملة السابقة أن القرآن يصدق الثابت النازل من عند الله في الشرائع السابقة ، و هي تتضمن أنها كانت هداية للناس ، و هذه الجملة تصرح بأن التوراة أنزلت هي و الإنجيل من عند الله هداية للذين أنزلت لهم . و في هذه الجملة إشارة على معنى آخر ، و هو أن لكل أمة كتابا و هداية خاصة ، و إن كانت في معناها مشتقة من الهدى الإلهي العام ، حتى إذا كانت دعوة محمد صلى الله عليه و سلم كانت هي الهدى العام الخالد إلى يوم القيامة .
{ التوراة} اسم للكتاب الذي اشتمل على شريعة موسى عليه السلام ، و نزل عليه من رب العالمين ، و ليست هي التوراة التي يتلوها اليهود اليوم ، لأن هذه التي تسمى بهذا الاسم الآن تشمل على ما نزل في عهد موسى ، و تشمل ما جاء بعد ذلك في عهد النبيين الذين بعثوا في بني إسرائيل كداود و سليمان و غيرهما ، و فوق ذلك فإن القرآن الكريم أشار في عدة مواضع إلى أن أهل الكتاب نسوا حظا مما ذكروا به ، و حرفوا الكلم عن مواضعه ، و غيروا و بدلوا ، ثم كانت التخريبات التي حلت بأورشليم في عهد بختنصر أولا ، ثم في عهد الرومان ثانيا سببا في أنهم نسوا حظا مما ذكروا به ، فليست التوراة المذكورة في القرآن هي التوراة الشائعة الآن .
{ و الإنجيل} كلمة يونانية{[447]} معناها البشارة ، و الإنجيل هو الكتاب الذي نزل على عيسى ، و ليس هو هذا الأناجيل التي يقرؤها المسيحيون اليوم ، فإن هذه مؤلفات ألفت بعد السيد المسيح عيسى عليه السلام ، نسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه ، و لقد كان للمسيح عليه السلام إنجيل غير هذه الأناجيل ، و هو الذي ذكره القرآن الكريم على أنه هداية للناس . و لقد قرر الأحرار من النصارى ذلك ، فقد قال أكهارن من مؤلفي تاريخ النصرانية:"إنه كان في ابتداء المسيحية رسالة مختصرة يجوز أن يقال أنها هي الإنجيل الأصلي ، و الغالب أن هذا الإنجيل كان للمريدين الذين لم يسمعوا أقوال المسيح بآذانهم و لم يروا أحواله بأعينهم ، و كان هذا الإنجيل بمنزلة القلب ، و ما كانت الأحوال المسيحية مكتوبة فيه على الترتيب "{[448]} .
و قد ذكرت ذلك الإنجيل الأناجيل المنسوبة لبعض الحواريين وهي المعروفة الآن ، فقد جاء في إنجيل متى ما نصه:"و كان يسوع يطوف كل الجليل ، يعلم في مجامعهم ، و يكرر ببشارة الملكوت ، و يشفي كل مرض و كل ضعف في الشعب "و بشارة الملكوت هي ترجمة دقيقة لكلمة إنجيل ، فإن كلمة إنجيل يونانية كما نوهنا ، فقد كانت إذا بشارة أي إنجيل غير هذه الأناجيل ، و هو المذكور في القرآن و إن لم يعلم الآن .