وبعد أن بين- سبحانه- أنه هو وحده المستحق للعبودية، أتبع ذلك ببيان بعض مظاهر فضله ورحمته فقال:نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ والكتاب- كما يقول الراغب- في الأصل مصدر، ثم سمى المكتوب فيه كتابا. والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه. والكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط.
والمراد بالكتاب المنزل:القرآن الكريم. وفي التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية أفراد الكتب المنزلة، فكأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريح باسمي التوراة والإنجيل.
وعبر بنزل- بصيغة التضعيف- للإشارة إلى أن نزول القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم كان منجما ولم يكن دفعة واحدة ومن المعروف أن القرآن قد نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم على حسب الوقائع والحوادث وغيرها في مدة تزيد على عشرين سنة.
وقد ذكر العلماء حكما كثيرة لنزول القرآن منجما منها:تثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية قلبه، ومنها:التدرج في تربية قويمة سليمة، ومنها:مسايرة الحوادث في تجددها وتفرقها. ومنها تيسير حفظه وتسهيل فهمه، ومنها:تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين ومنها:
الإجابة على أسئلة السائلين، وبيان حكم الله- تعالى- فيها يحصل من قضايا، ولفت أنظار المخلصين إلى ما وقعوا فيه من أخطاء، وكشف حال الكافرين والمنافقين. ومنه:الإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه من عند الله- تعالى- وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. فأنت تقرأ ما نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قرآن في مكة. وما نزل عليه في المدينة، فترى الجميع محكم السرد. دقيق السبك، رصين الأسلوب، بليغ التراكيب، فصيح الألفاظ.. بينما ترى كلام الأدباء والبلغاء يختلف في جودته من وقت إلى وقت «ومن موضوع إلى موضوع».
وقد بين- سبحانه- أن هذا القرآن قد نزل مقترنا بأمرين متصلا بهما:
أما أولهما فهو قوله:بِالْحَقِّ.
وأما ثانيهما فهو قوله:مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أى:أن الله- عز وجل- الذي لا إله إلا هو، والذي هو الحي القيوم، هو الذي نزل عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلا ملتبسا بالحق، ومصاحبا له، ومقترنا به، ومشتملا عليه، فكل ما فيه من أوامر، ونواه، وقصص، وأحكام، وعقائد، وآداب، وشرائع وأخبار.. حق لا يحوم حوله باطل، وصدق لا يتطرق إليه كذب.
وهو الذي جعل هذا الكتاب المنزل عليك موافقا ومؤيدا لما اشتملت عليه الكتب السابقة من الدعوة إلى وحدانية الله، وإلى مكارم الأخلاق، وإلى الوصايا والشرائع التي تسعد الناس في كل زمان ومكان. وهذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في جوهرها وأصولها. قال- تعالى-:شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
.
وقوله بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف فيكون في محل نصب على الحال من الكتاب. وقوله مُصَدِّقاً حال مؤكدة من الكتاب. أى نزله في حال تصديقه الكتب.
وفائدة تقييد التنزيل بهذه الحال حث أهل الكتاب على الإيمان بالمنزل، وتنبيههم على وجوبه فإن الإيمان بالمصدق يوجب الإيمان بما يصدقه حتما.
قال الجمل:وقوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، فيه نوع مجاز لأن ما بين يديه هو ما أمامه.
فسمى ما مضى بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره. واللام في لِما لتقوية العامل. نحو قوله- تعالى-:فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وهذه العبارة أحسن من تعبير بعضهم بالزائدة»
ثم أخبر- سبحانه- عن بعض الكتب الأخرى التي أنزلها فقال:وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.
والتوراة:اسم عبراني للكتاب الذي أنزله الله- تعالى- على موسى- عليه السّلام- ليكون شريعة له ولقومه.
قال القرطبي ما ملخصه:والتوراة معناها الضياء والنور مشتقة من ورى الزند وورى لغتان إذا خرجت ناره.. وقيل مأخوذة من التورية، وهي التعريض بالشيء والكتمان لغيره، فكان أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح.
والجمهور على القول الأول لقوله- تعالى- وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ يعنى التوراة .
والإنجيل:كلمة يونانية معناها البشارة وهي اسم للكتاب الذي أنزله الله على عيسى.
قالوا:والإنجيل افعيل من النجل وهو الأصل:يقال:رحم الله ناجليه أى والديه. وقال قوم:الإنجيل مأخوذ من نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته، ويقال للماء الذي يخرج من البئر:نجل وقيل:هو من النجل الذي هو سعة في العين. ومنه طعنة نجلاء أى واسعة.
وسمى الإنجيل بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه الله- تعالى- لبنى إسرائيل على يد عيسى عليه السّلام .
وهذا الكلام الذي نقلناه عن القرطبي والفخر الرازي هو قول لبعض العلماء الذين يرون أن لفظي التوراة والإنجيل يدخلهما الاشتقاق والتصريف.
وهناك فريق آخر من العلماء يرى أن هذين اللفظين لا يدخلهما الاشتقاق والتصريف لأنهما اسمان أعجميان لهذين الكتابين الشريفين.
قال الفخر الرازي بعد أن أورد كلاما طويلا يدل على عدم ارتضائه للمذهب الذي يرى أصحابه أن هذين اللفظين يدخلهما الاشتقاق والتصريف:«فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان:
أحدهما بالعبرية، والآخر بالسريانية، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقهما على أوزان لغة العرب، فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث»