الآية التي تليها تخاطب نبي الإسلام وتقول: إنّ الله تعالى قد أنزل عليك القرآن الذي فيه دلائل الحقّ والحقيقة ،وهو يتطابق تماماً مع ما جاء به الأنبياء والكتب السابقة ( التوراة والإنجيل ) التي بشّرت{[507]} به وقد أنزلها الله تعالى أيضاً لهداية البشر: ( نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدىً للناس ) .ثمّ تضيف الآية ( وأنزل الفرقان ) .
وبعد إتمام الحجّة بنزول الآيات الكريمة من الله تعالى وشهادة الفطرة والعقل على صدق دعوة الأنبياء ،فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة ،ولذلك تقول الآية محلّ البحث بعد ذكر حقّانيّة الرسول الأكرم والقرآن المجيد: ( إنّ الذين كفروا بآيات الله لهم عذابٌ شديد ) .
ومن أجل أن لا يتوهّم أحد أو يشك في قدرة الله تعالى على تنفيذ تهديداته تضيف الآية ( والله عزيز ذو انتقام ){[508]} .
( عزيز ) في اللّغة بمعنى كلّ شيء صعب وغير قابل للنفوذ ،ولذلك يقال للأرض الصعبة العبور ( عزاز ) وكذلك يطلق على كلّ أمر يصعب الحصول عليه لقلّته وندرته ( عزيز ) وكذلك تطلق هذه الكلمة على الشخص القويّ والمقتدر الذي يصعب التغلّب عليه أو يستحيل التغلّب عليه ،وكلّما أطلقت كلمة ( عزيز ) على الله تعالى يراد بها هذا المعنى ،أي أنّه لا أحد يقدر على التغلّب عليه ،وأنّ كلّ المخلوقات خاضعة لمشيئته وإرادته .
وفي الجملة الآنفة الذكر ولكي يعرف الكفّار أنّ هذا التهديد جادّ تماماً تذكّرهم الآية بأنّ الله عزيزٌ ،أي أنّه قاهر وما من أحد يستطيع أن يقف بوجه تنفيذ تهديداته وأنّه في الوقت الذي يكون فيه غفوراً رحيماً يكون شديد العقاب بالنسبة لمن لا يستحقّون هذه الرحمة .
كلمة ( الانتقام ) تستعمل غالباً في مفهومنا الحالي في لجوء شخص لا يستطيع أن يتسامح مع الآخرين ويغفر لهم أخطاءهم إلى عمل مقابل قد يكون عنيفاً لا يأخذ حتّى مصلحته الخاصّة بنظر الاعتبار ،وبديهيٌّ أنّ هذه الصفة مذمومة ،إذ أنّ على الإنسان في كثير من الحالات أن يعفو ويغفر بدلاً من الانتقام ،ولكنّ ( الانتقام ) في اللّغة ليس بهذا المعنى بل يعني إنزال العقاب بالمجرم ،ولا شكّ أنّ معاقبة المجرمين العصاة فضلاً عن كونها من الأُمور الحسنة فإنّه لا يجوز التهاون فيها وإهمالها لأنّ ذلك يجانب العدالة والحكمة .
هنا لابدّ من ملاحظة ما يلي:
1أصل ( الحقّ ) المطابقة والموافقة ،لذلك يقال لما يطابق الواقع «الحق » .كما أنّ وصف الله بالحقّ ناشئ من كون ذاته القدسية أعظم واقع غير قابل للإنكار .وبعبارة أخرى «الحق » هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه .
والباء في «الحق » في هذه الآية للمصاحبة ، أي يا أيّها النبيّ لقد أنزل عليك الله القرآن مصحوباً بدلائل الحقّ .
2«التوراة » لفظة عبرية تعني «الشريعة والقانون » ،وأُطلقت على الكتاب الذي أنزل الله على موسى بن عمران ( عليه السلام ) .وقد تطلق أيضاً على مجموعة كتب العهد القديم أو أسفاره الخمسة .
إنّ مجموعة كتب العهد القديم تتألّف من التوراة وعدد من الكتب الأخرى .والتوراة تتألّف من خمسة أقسام ،كلّ قسم يسمّى «سفراً » وهي: «سفر التكوين » و«سفر الخروج » و «سفر لاوي » و «سفر الأعداد » و «سفر التثنية » .هذه الأقسام من العهد القديم تشرح تكوين العالم والإنسان والمخلوقات وبعضاً من سير الأنبياء السابقين وموسى بن عمران وبني إسرائيل والأحكام .
أمّا الكتب الأخرى فهي ما كتبه المؤرّخون بعد موسى ( عليه السلام ) في شرح أحوال الأنبياء والملوك والأقوام التي جاءت بعد موسى بن عمران ( عليه السلام ) .
بديهيّ أنّ هذه الكتبعدا الأسفار الخمسةليست كتباً سماوية واليهود أنفسهم لا يدّعون ذلك .وحتّى «زبور » داود الذي يطلقون عليه اسم «المزامير » هو شرح مناجاة داود ومواعظه .
أمّا أسفار التوراة الخمسة ففيها دلائل تشير إلى أنّها ليست من الكتب السماوية ،بل هي كتب تاريخية دوّنت بعد موسى بن عمران ( عليه السلام ) ،إذ فيها بيان موت موسى ( عليه السلام ) ومراسيم دفنه ،وبعض الحوادث التي وقعت بعده ،على الأخصّ الفصل الأخير من سفر التثنية الذي يثبت أنّ هذا الكتاب قد كتب بعد موت موسى ( عليه السلام ) .
يضاف إلى ذلك أنّ في هذه الكتب الكثير من الخرافات وهي تنسب أُموراً فاضحة للأنبياء ،وبعض الأقوال الصبيانية ،ممّا يؤكّد زيف هذه الكتب .والشواهد التاريخية تؤكّد أنّ التوراة الأصلية قد ضاعت ،وأنّ أتباع موسى هم الذين كتبوا هذه الكتب بعده{[509]} .
3«الإنجيل » كلمة يونانية بمعنى «البشارة » أو «التعليم الجديد » وتطلق على الكتاب الذي نزل على عيسى بن مريم ( عليه السلام ) .ومن الجدير بالتنويه أنّ القرآن كلّما أورد اسم كتاب عيسى ( عليه السلام ) «الإنجيل » جاء به مفرداً وعلى أنّه قد نزل من الله .وعليه فإنّ الأناجيل المتداولة بين أيدي المسيحيّين ،وحتّى الأشهر منها ،وهي الأناجيل الأربعة «لوقا ،ومُرقُس ،ومتّى ،ويوحنا » ليست من الوحي الإلهي ،وهذا ما لا ينكره المسيحيّون أنفسهم ،إذ يقولون إنّ هذه الأناجيل قد كتبت بأيدي تلامذة السيّد المسيح ( عليه السلام ) بعده بمدّة طويلة .ولكنّهم يزعمون أن أُولئك التلامذة قد كتبوها بإلهام من الله .
هنا يحسن بنا أن نتعرّفولو بإيجازعلى «العهد الجديد » والأناجيل وكتّابها:
إنّ أهم كتاب ديني عند المسيحيّين والذي يعتمدونه على أنّه كتاب سماوي هو المجموعة التي يطلق عليها اسم «العهد الجديد » .
«العهد الجديد » الذي يبلغ نحو ثلث «العهد القديم » يتألّف من 27 كتاباً ورسالة تشمل موضوعات عامّة متناثرة ومختلفة ،على النحو التالي:
1إنجيل متّى{[510]}: وهو الإنجيل الذي كتبه «متّى » أحد حواريّي المسيح ( عليه السلام ) الاثني عشر في سنة 38 ميلادية ،وبعض يقول في سنة 50 أو 60 ميلادية{[511]} .
2إنجيل مُرقُس{[512]}: بحسب ما جاء في كتاب «القاموس المقدّس » صفحة 792 ،لم يكن مُرقُس من الحواريّين ،ولكنّه كتب إنجيله بإشراف «بطرس » .قتل مُرقُس سنة 68م .
3إنجيل لوقا: كان «لوقا » رفيق سفر «بولس » الرسول .كان «بولس » على عهد المسيح يهودياً متعصّباً ،ولكنه اعتنق المسيحية بعده .يقال إنّه توفي في سنة 70 م ،وحسبما يقول مؤلّف «القاموس المقدّس » ص 772: «إنّ تاريخ كتابة إنجيل لوقا يعود إلى حوالي سنة 63 م » .
4إنجيل يوحنا: «يوحنا » كان من تلامذة المسيح ( عليه السلام ) ومن أصحاب «بولس » .يقول صاحب القاموس المذكور ،اعتماداً على عدد من المحقّقين: إنّه أُلف في أواخر القرن الأول الميلادي{[513]} .
يتّضح من محتويات هذه الأناجيل ،التي تشرح عموماً حكاية صلب المسيح وما جرى بعد ذلك ،أنّ جميع هذه الأناجيل قد كتبت بعد المسيح بسنوات وليست كتباً سماوية نزلت على المسيح ( عليه السلام ) .
5أعمال الرسل: «أعمال الحواريّين ودعاة الصدر الأوّل » .
6رسائل بولس الأربعة عشرة إلى جهات مختلفة .
7رسالة يعقوب: «الرسالة العشرون من الرسائل السبع والعشرين في العهد الجديد » .
8رسالتا بطرس: «الرسالتان 21 و 22 من العهد الجديد » .
9رسائل يوحنا: «الرسائل 23 و 24 و 25 من العهد الجديد » .
10رسالة يهودا: «الرسالة 26 من العهد الجديد » .
11مكاشفة يوحنا: «القسم الأخير من العهد الجديد » .
استنادا إلى المؤرّخين المسيحيّين وحسبما ورد في هذه الأناجيل والكتب والرسائل في العهد الجديد ،فإنّ أيّاً منها ليس كتاباً سماوياً ،بل هي كتب كتبت بعد المسيح ( عليه السلام ) ،ونستنتج من ذلك أنّ الإنجيل الأصلي السماوي الذي نزل على المسيح ( عليه السلام ) قد فُقِد وليس له وجود الآن .إنّما تلامذة المسيح أدرجوا بعضاً منه في أناجيلهم ومزجوهمع الأسفبالخرافات .
أمّا القول بأنّ على المسلمين أن لا يشكّوا في صحّة الأناجيل والتوراة الموجودةعلى اعتبار أنّ القرآن قد صدقّها وشهد لهافإنّه قول مردود ،وقد أجبنا عليه في المجلّد الأوّل عند تفسير الآية: ( وآمنوا بما أنزلت مصدّقاً لما معكم ) .