{ نزل عليك الكتاب بالحق} أي أوحى إليك هذا القرآن المكتوب بالتدريج متصفا بالحق متلبسا به .وإنما عبر عن الوحي بالتنزيل وبالإنزال كما في آيات أخرى للإشعار بعلو مرتبة الموحي على الموحى إليه .ويصح التعبير بالإنزال عن كل عطاء منه تعالى كما قال:{ وأنزلنا الحديد} [ الحديد:25] .وأما التدريج فقد استفيد من صيغة التنزيل ، وكذلك كان:فقد نزل القرآن نجوما متفرقة بحسب الأحوال والوقائع .ومعنى تنزيله بالحق أن فيه ما يحقق أنه من عند الله تعالى ، فلا يحتاج إلى دليل من غيره على حقيقته ، أو معناه:أن كل ما جاء به من العقائد والأخبار والأحكام والحكم حق .وقد يوصف الحكم بكونه حقا في نفسه إذا كانت المصلحة والفائدة تتحقق به .وفي أشهر التفاسير أن المراد بالحق العدل أو الصدق في الأخبار أو الحجج الدالة على كونه من عند الله وما قلناه أعم وأوضح .
{ مصدقا لما بين يديه} أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء أي كونها وحيا من الله تعالى .وذلك أنه أثبت الوحي وذكر أنه تعالى أرسل رسلا أوحى إليهم .فهذا تصديق إجمالي لأصل الوحي لا يتضمن تصديق ما عند الأمم التي تنتمي إلى أولئك الأنبياء من الكتب بأعيانها ومسائلها .ومثاله تصديقنا لنبينا صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به فهو لا يستلزم تصديق كل ما في كتب الحديث المروية عنه بل ما ثبت منها عندنا فقط .
{ وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس} التوراة كلمة عبرانية معناها المراد الشريعة أو الناموس ، وهي تطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها وهي:سفر التكوين وفيه الكلام عن بدء الخليقة وأخبار بعض الأنبياء وسفر الخروج وسفر اللاويين أو الأخبار وسفر العدد و سفر تثنية الاشتراع ويقال التثنية فقط .ويطلق النصارى لفظ التوراة على جميع الكتب التي يسمونها العهد العتيق وهي كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بني إسرائيل وملوكهم قبل المسيح .ومنها ما لا يعرفون كاتبه .وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا وهو المعبر عنه بالإنجيل وسيأتي تفسيره .أما التوراة في عرف القرآن فهي ما أنزله الله تعالى من الوحي على موسى عليه الصلاة والسلام ليبلغه قومه لعلهم يهتدون به .وقد بين تعالى أن قومه لم يحفظوه كله إذ قال في سورة المائدة:{ ونسوا حظا مما ذكروا به} [ المائدة:13] كما أخبر عنهم في آيات أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه وذلك فيما حفظوه واعتقدوه .وهذه الأسفار الخمسة التي في أيديهم تنطق بما يؤيد ذلك ومنه ما في سفر التثنية من أن موسى كتب التوراة وأخذ العهد على بني إسرائيل بحفظها والعمل بها ففي فصل ( الإصحاح ) الحادي والثلاثين منه ما نصه:
"24 فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلا 26 خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهدا عليكم 27 لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة .هو ذا وأنا بعد حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي 28 اجمعوا إلي كل شيوخ أسباطكم وعرفائكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض 29 لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون من الطريق الذي أوصيتكم 30 ويصيبكم الشر في آخر الأيام لأنكم تعملون الشر أما الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم 31 فنطق موسى في مسامع كل جماعة إسرائيل بكلمات هذا النشيد إلى تمامه "وههنا ذكر النشيد في الفصل الثاني والثلاثين ثم قال أي الكاتب لسفر التثنية: "44 فأتى موسى ونطق بجميع كلمات هذا النشيد في مسامع الشعب هو ويشوع بن نون 45 ولما فرغ موسى من مخاطبة جميع بني إسرائيل بهذه الكلمات 46 قال لهم وجهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم لكي توصوا بها أولادكم ليحرصوا ان يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هي حياتكم وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها ".
ومنه خبر موت موسى وكونه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله بعد ، أي إلى وقت الكتابة .
فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وما هما في الحقيقة من الشريعة المنزلة على موسى التي كتبها ووضعها بجانب التابوت بل كتبا كغيرهما بعده .وقد ظهر تأويل علم موسى في بني إسرائيل .فإنهم فسدوا وزاغوا بعده كما قال وأضاعوا التوراة التي كتبوا غيرها ، ولا ندري عن أي شيء أخذوا ما كتبوه ، على أنه فقد أيضا .وفي الفصل الرابع والثلاثين من أخبار الأيام الثاني أن حلقيا الكاهن وجد سفر شريعة الرب وسلمه إلى شافان الكاتب فجاء به شافان إلى الملك .قال صاحب دائرة المعارف العربية:إنهم ادعوا أن هذا السفر الذي وجد حلقيا هو الذي كتبه موسى .ولا دليل لهم على ذلك ، على أنهم أضاعوه أيضا .ثم إن عزرا الكاهن الذي"هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء "قد كتب لهم الشريعة بأمر أرتحشستا ملك فارس الذي أذن لهم ( أي لبني إسرائيل ) بالعودة إلى أورشيلم .
وقد أمر هذا الملك بأن تقام شريعتهم وشريعته كما في سفر عزرا ( راجع الفصل السابع منه ) .فجميع أسفار التوراة التي عند أهل الكتاب قد كتبت بعد السبي كما كتب غيرها من أسفار العهد العتيق .ويدل على ذلك كثرة الألفاظ البابلية فيها .وقد اعترف علماء اللاهوت من النصارى بفقد توراة موسى التي هي أصل دينهم وأساسه .قال صاحب كتاب ( خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية ):والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان من أمرها والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرب بختنصر الهيكل .وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية اه بحروفه .
ولقد نعلم أنهم يجيبون من يسأل:من أين جمع عزرا تلك الكتب بعد فقدها وإنما يجمع الموجود ، وعلى أي شيء اعتمد في إصلاح غلطها ؟ قائلين:إنه كتب ما كتب بالإلهام فكان صوابا .ولكن هذا الإلهام مما لا سبيل إلى إقامة البرهان عليه ولا هو مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لا ثقة بنقلهم .ولو كتب عزرا بالإلهام الصحيح لكتب شريعة موسى مجردة من الأخبار التاريخية ومنها ذكر كتابته لها ووضعها في جانب التابوت وذكر موته وعدم مجيء مثله .
وقد بين بعض علماء أوربا أن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة لا يمكن أن تكون كتابةَ واحدٍ .وليس من غرضنا أن نطيل في ذلك .وإنما نقول إن التوراة التي يشهد لها القرآن هي ما أوحاه الله تعالى إلى موسى ليبلغه قومه بالقول والكتاب .وأما التوراة التي عند القوم فهي كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة لأن القرآن يقول في اليهود:إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ، كما يقول:إنهم نسوا حظا مما ذكروا به لأنه يستحيل أن تنسى تلك الأمة بعد فقد كتاب شريعتها جميع أحكامها .فما كتبه عزرا وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده وعلى غيره من الأخبار ، وهذا كاف للاحتجاج على بني إسرائيل بإقامة التوراة وللشهادة بأن فيها حكم الله كما في سورة المائدة .وبهذا يجمع بين الآيات الواردة في التوراة وبين المعقول والمعروف في تاريخ القوم .
أما لفظ"الإنجيل "فهو يوناني الأصل ومعناه البشارة قيل والتعليم الجديد .وهو يطلق عند النصارى على أربعة كتب تعرف بالأناجيل الأربعة وعلى ما يسمونه العهد الجديد ، وهو هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل ( أي الحواريين ) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا .أي على المجموع ، فلا يطلق على شيء مما عدا الكتب الأربعة بالانفراد .والأناجيل الأربعة عبارة عن كتب وجيزة في سيرة المسيح عليه السلام وشيء من تاريخه وتعليمه .ولهذا سميت أناجيل .وليس لهذه الكتب سند متصل عند أهلها وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة .
ففي السنة التي كتب فيها الإنجيل الأول تسعة أقوال .وفي كل واحد من الثلاثة عدة أقوال أيضا ، على أنهم يقولون إنها كتبت في النصف الثاني من القرن الأول للمسيح .لكن أ حد الأقوال في الإنجيل الأول أنه كتب سنة 37 ومنها أنه كتب سنة 64 .ومن الأقوال في الرابع أنه كتب في 98 للميلاد .ومنهم من أنكر أنه من تصنيف يوحنا .وإن خلافهم في سائر كتب العهد الجديد لأقوى وأشد .
وأما الإنجيل في عرف القرآن فهو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من البشارة بالنبي الذي يتمم الشريعة والحكم والأحكام .وهو ما يدل عليه اللفظ .وقد أخبرنا سبحانه وتعالى في 14:5 أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود ، وهم أجدر بذلك .فإن التوراة كتبت في زمن نزولها وكان الألوف من الناس يعملون بها ، ثم فقدت والكثير من أحكامها محفوظ معروف .ولا ثقة بقول بعض علماء الإفرنج إن الكتابة لم تكن معروفة في زمن موسى عليه السلام .
وأما كتب النصارى فلم تعرف وتشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح .لأن أتباع المسيح كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان فلما أمنوا باعتناق الملك قسطنطين النصرانية سياسةً ، ظهرت كتبهم ، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله ، وكانت كثيرة ، فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على هذه الأربعة .
فمن فهم ما قلناه في الفرق بين عرف القرآن وعرف القوم في مفهوم التوراة والإنجيل ، يتبين له أن ما جاء في القرآن هو الممحص للحقيقة التي أضاعها القوم ، وهي ما يفهم من لفظ التوراة والإنجيل .ويصح أن يعد هذا التمحيص من آيات كون القرآن موحى به من الله ، ولولا ذلك لما أمكن ذلك الأمي الذي لم يقرأ هذه الأسفار والأناجيل المعروفة ولا تواريخ أهلها ، أن يعرف أنهم نسوا حظا مما أوحي إليهم وأوتوا نصيبا منه فقط ، بل كان يجاريهم على ما هم عليه ويقول الأناجيل لا الإنجيل .ثم إن من فهم هذا لا تروج عنده شبهات القسيسين الذين يوهمون عوام المسلمين أن ما في أيديهم من التوراة والأناجيل هي التي شهد بصدقها القرآن .
وقال الأستاذ الإمام في تفسير هذه الجملة:المتبادر من كلمة ( أنزل ) أن التوراة نزلت على موسى مرة واحدة ، وإن كانت مرتبة في الأسفار المنسوبة إليه .فإنها مع ترتيبها مكررة والقرآن لا يعرف هذه الأسفار ولم ينص عليها .وكذلك الإنجيل نزل مرة واحدة ليس هو هذه الكتب التي يسمونها أناجيل ، لأنه لو أرادها لما أفرد الإنجيل دائما .مع أنها كانت متعددة عند النصارى حينئذ .
وحاول بعض المفسرين بيان اشتقاق التوراة والإنجيل من أصل عربي وما هما بعربيين ومعنى التوراة وهي عبرية الشريعة ومعنى الإنجيل وهي يونانية البشارة .وإنما المسيح مبشر بالنبي الخاتم الذي يكمل الشريعة للبشر .وأما كونها هدى للناس فهو ظاهر .