{ وأنزل الفرقان} أقول الفرقان مصدر كالغفران وهو هنا ما يفرق ويفصل به بين الحق والباطل .قال بعضهم:المراد به القرآن ، وهو مردود بقوله في الآية{ نزل عليك الكتاب} [ آل عمران:3] .وقال غيرهم هو كل ما يفرق به بين الحق والباطل في كل أمر كالدلائل والبراهين واختاره ابن جرير .وقيل هو خاص بيبان الحق في أمر عيسى عليه السلام كما جاء في هذه السورة .وقال الأستاذ الإمام:إن الفرقان هو العقل الذي به تكون التفرقة بين الحق والباطل وإنزاله من قبيل إنزال الحديد .لأن كل ما كان عن الحضرة العلية الإلهية يسمى إعطاؤه إنزالا:وما قاله قريب مما اختاره ابن جرير من التفسير المأثور ، فإن العقل هو آلة التفرقة .ويؤيد ذلك قوله تعالى في سورة الشورى{ هو الذي أنزل عليك الكتاب بالحق والميزان} [ الشورى:15] وقد فسروا الميزان بالعدل ، فالله تعالى قرن أمرين أحدهما الفرقان وهو ما نعرف به الحق في العقائد فنفرقه من الباطل ، وثانيهما الميزان وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام فنعدل بين الناس فيها .وكل من العقل والعدل من الأمور الثابتة في نفسها .فكل ما قام عليه البرهان العقلي في العقائد وغيرها فهو حق منزل من الله .وكل ما قام به العدل فهو حكم منزل من الله ، وإن لم ينص عليه في كتاب الله ، فإنه تعالى هو المنزِّل ، أي المعطي للعقل والعدل ، أو الفرقان والميزان .كما أنه سبحانه هو المنزل أي المعطي للكتاب ، أي لسنا نستغني بشيء من مواهبه المنزلة عن آخر .
ومازال علماء الكلام وأهل التوحيد يعدون البراهين العقلية هي الأصل في معرفة العقائد الدينية .ويجب على علماء الأحكام وأهل الفقه أن يحذوا حذوهم في العدل فيعلموا أنه يمكن أي يعرف ويطلب لذاته ، وأن النصوص الواردة في بعض الأحكام مبينة له وهادية إليه وأكثر الأحكام القضائية في الإسلام اجتهادية فيجب أن يكون أساسها تحري العدل .والغزالي يفسر الميزان بالعقل الذي يؤلف الحجج ويميز بين الحق والباطل والعدل والجور وغير ذلك .وفي حديث جابر عند البيهقي"قوام المرء العقل ولا دين لمن لا عقل له "ومن حديثه عند أبي الشيخ في الثواب وابن النجار"دين المرء عقله ومن لا عقل له لا دين له ".
{ إن الذين كفروا بآيات الله} التي أنزلها لهداية عباده وإرشادهم إلى طرق السعادة في المعاش والمعاد{ لهم عذاب شديد} بما يلقي الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تطفئ نورها ، وما يجرهم إليه من المعاصي والمفاسد التي تدسي نفوسهم وتدنسها حتى تكون ظلمة عقولهم وفساد نفوسهم منشأ عذابهم الشديد في تلك الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية العقلية على الحياة البدنية المادية ، فلا يكون لهم شاغل ولا مسل من المادة عما فاتهم من النعيم وما أصابهم من الجحيم .
{ والله عزيز ذو انتقام} فهو بعزته ينفذ سننه فينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض .والانتقام من النقمة وهي السطوة والسلطة ويستعمل أهل هذا العصر الانتقام بمعنى التشفي بالعقوبة ، وهو بهذا المعنى محال على الله تعالى .