{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من احدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به}إن هذه الآية تبين مآل الذين يموتون وهم كفار ،أي انهم يستمرون على كفرهم حتى يلقوا ربهم ،فالواو في قوله سبحانه:{ وهم كفار}واو الحال وهي تفيد انهم ماتوا وهم على حال لهم مستمرة ملازمة لم تفارقهم ،وهي الكفر والضلال ،وإن أولئك في اليوم الآخر يلقون جزاءهم على ما قدموا من سيئات وجحود بالحق موفورا كاملا ،وذلك الجزاء ذو شطرين ،أحدهما سلبي والآخر إيجابي .أما السلبي فهو ان كل ما عملوا من خير وأنفقوا من مال لا يكافئون عليه ،كما قال تعالى:{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا23}[ الفرقان] والسبب في فقد الجزاء عليه ان أساس الجزاء في الدين النية ،والنية لا تكون سليمة إلا إذا كان فعل الخير قد قصد به وجه الله سبحانه وتعالى ، وذلك لا يكون ممن لا يذعن لدين الله ؛لأنه لو طلب وجه الله لجاب نداءه ،أي لن يقبل منهم أي إنفاق ،ولو كان بمقدار ما يملأ الأرض من ذهب ،فمهما يفعلوا من عمل ،هو في ذاته خير ،فقد أفسدوه بنياتهم الآثمة ،وتمردهم على الحق إذ دعوا إليه .
والجزاء الإيجابي هو العقاب الذي لا يكون منه مناص ولو بفدية مهما كبرت او عظمت ،كما قال تعالى مخاطبا المنافقين:{ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير15}[ الحديد] وقد أشار إلى هذا العذاب بقوله سبحانه:{ ولو افتدى به}أي لو افتدى نفسه من عذاب الآخرة بمثل الذهب الذي يملأ الأرض .والواو هنا تفيد انه لا يقبل منه أي إنفاق يقدمه ولو كان ذلك الإنفاق قدمه ليفتدي به نفسه من عذاب الله .ثم بين سبحانه العذاب بقوله تعالى:{ أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين} .
أي أولئك الذين ماتوا وهم كفار بسبب الكفر الذي لازموه حتى موتهم ،لهم عذاب مؤلم شديد الإيلام مستمر ،وليس لهم ناصر ،و ( من ) هنا لاستغراق النفي ،أي ليس لهم أي ناصر مهما يكن ، فمن كانوا يتخذونهم شفعاء لا يشفعون لهم ،والرسل الذين كانوا يتعلقون بهم لا يعرفونهم ، ولا نجاة لهم من عذاب الله ، لا بفدية يفتدون بها انفسهم ،ولا بناصر ينصرهم من دون الله ، وبذلك يكونون حطب جهنم والنار مأواهم وبئس المصير ،ولله الأمر من قبل ومن بعد .
وهنا بحث لفظي أثاره إمام اللغة الزمخشري ،وهو لماذا عبر في الآية السابقة في الخبر من غير فاء ،في قوله تعالى:{ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم} وفي هذه الآية اتى بالفاء فقال:{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل}إلى آخره ،وقد أجاب عن ذلك بقوله:{ قد أوذن بالفاء أن الكلام بني على الشرط والجزاء ،وان سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ،وبترك"الفاء"أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب ،كما تقول:الذي جاءني له درهم ،لم تجعل المجئ سببا في استحقاق الدرهم ، بخلاف قولك:فله درهم .
وإن ذلك الكلام مغزاه ان الله سبحانه وتعالى أراد ان يبين لهم ان هذا الجزاء نتيجة للعمل ،وانه مسبب عنه لن الجزاء من جنس الفعل دائما ،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر .وأما في الآية الأولى فلأن عدم قبول التوبة ليس جزاء ؛إذ معناه عدم وجود توبة صالحة للقبول ؛أجرى القول مجرى الإخبار كأنه وصف ملازم لحالهم ،أو هو حال أخرى من أحوالهم ،وإذا كان الجزاء من جنس العمل دائما .