{ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم}
/م38
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر ، والمعنى إذا كان قطع اليد هو العقوبة الرادعة ، فإن التوبة تجبها وتقطعها في الدنيا والآخرة ، أو في الآخرة فقط ، فمن أقلع عن الذنب وأحس بالندم على ما ارتكبه ، واعتزم على ألا يعود إليه ، فإن الله سبحانه وتعالى يقبل توبته ، وعبر سبحانه وتعالى عن قبوله توبته بقوله:{ فإن الله يتوب عليه} .
أي أنه جلت قدرته ، وتعالت عظمته يقابل عمله القلبي في التوبة ، والعمل الخارجي بالإصلاح ومنع الفساد ، بعمل من جانبه سبحانه وهو أنه يتوب عليه ، أي يعينه على التوبة ويقبلها ، فقوله تعالى:{ فإن الله يتوب عليه} يتضمن ثلاث معان أولها:المعاونة على التوبة إذا أخلص العبد ، وخلص العمل له سبحانه ، وأصلح في الأرض بعد الإفساد فيها ، وثانيهما قبول التوبة وثالثها تطمين التائب بتأكيد القبول .
وذكر سبحانه أن التوبة الخالصة لا بد أن تقترن بالإصلاح لأن الإذعان القلبي لا يكون كاملا وناميا إلا إذا اقترن به العمل الصالح لأنه يزكيه ويسقيه .
والتعبير بقوله تعالى:{ من بعد ظلمه} إشارة إلى أن السرقة خاصة وارتكاب الذنوب عامة ظلم كبير ، وقوله تعالى:{ وأصلح} فيه إشارة إلى أن السرقة إفساد في الأرض والأمانة إصلاح أي إصلاح .
وقد ختم الله سبحانه و تعالى الآية بإثبات رحمته ، وأنه سبحانه من صفاته الثابتة الغفران فقال:{ إن الله غفور رحيم} أي أن الله يتوب على عبده إذا أذنب ، لأن من صفاته أنه غفور كثير الغفران يتجاوز عن السيئات ويكافئ على الحسنات ، لأن ذلك مقتضى رحمته ، وهو الرحيم الدائم الرحمة وقد أكد سبحانه ذلك فضل تأكيد ب "إن"، وبإعادة لفظ الجلالة .
وقد أشرنا من قبل إلى أن كثيرين من الفقهاء يقولون:إن التوبة تسقط الحد ، وكانت هذه الآية الكريمة:{ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} من شواهد ذلك .
والقول الجلي في هذا أن التوبة قبل الترافع إلى السلطان إذا صحبها رد المسروق إلى مالكه تمنع إقامة الحد بالاتفاق ، ولكن الخلاف القائم بين الفقهاء في التوبة إذا كانت بعد الترافع وإثبات السرقة ، فقد قال أبو حنيفة ومالك:إن التوبة لا تسقط الحد ، لأن الأمر بالقطع عام يشمل التائب وغير التائب ، والتوبة المنصوص عليها في هذه الآية هي ما يكون بعد إقامة الحد وقطع اليد ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا قطعت يد السارق فتاب سبقته يده إلى الجنة ، وإن لم يتب سبقته يده إلى النار"وفوق ذلك فإن التوبة في السرقة كالتوبة في الزنا لا تسقط ( الحد ){[924]} ، ولقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم حد الزنا ، وقال في امرأة أقام عليها الحد:"لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم"{[925]} . وفوق هذا وذاك الحد كفارة للذنوب في الدنيا والكفارات تجب مع التوبة .
وقال أكثر الشافعية والحنابلة:التوبة تمنع إقامة الحد وأقاموا على ذلك الأدلة الآتية:
أ- قوله تعالى:{ فمن تاب من بعد ظلمه فأصلح} . وهذا النص مقترن بقوله تعالى:{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} . فكان مخصصا للعموم في الأمر بالقطع ، وإلا ما اقترن به .
ب- أن الله تعالى اعتبر التوبة مانعة من إقامة حد الحرابة ، والحرابة{[926]} فيها جرائم سرقة وقتل وسرقاتها كبيرة ، فكيف تقبل التوبة في السرقات الكبرى ولا تقبل في الصغرى .
ج- ما ورد في الآثار الصحاح مما يثبت أن التوبة تجب ما قبلها وقد قال صلى الله عليه وسلم:"التائب من الذنب كمن لا ذنب له".
د- أن التوبة السريعة تدل على أن النفس لم تدنس بالرجس ، وقد قال تعالى في تحقيق هذا المعنى:{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب . . . ( 17 )} ( النساء ) .
والذي نراه في هذا الموضوع أننا نأخذ برأي الإمامين أبي حنيفة ومالك في الذين يعدون عائدين ، فإن هؤلاء لا تقبل منهم توبة ، ولا تأخذ العدالة فيهم رأفة ، أما الذين لم يكونوا عائدين ، فإن التوبة تعفيهم من العقاب إقالة لعثرتهم ، ونأخذ في أمرهم برأي أكثر الشافعية والحنابلة .
وإذا كان لنا أن نطالب بإقامة حدود الله وهو واجب علينا فإننا إذا طالبنا بإقامة حد السرقة نطالب به في الحدود الآتية:
أولها:أن يقام الحد على السراق العائدين ليكونوا عبرة المعتبرين .
الثاني:ألا يقام الحد إلا في الحال التي اتفق الأئمة على إقامتها فيه ، فلا يقام الحد ، وبعض الأئمة لا يرى إقامته .
الثالث:ألا توجد أي شبهة في الإثبات أو في غيره ، والله سبحانه بكل شيء عليم ، ولقد قال سبحانه:{ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} .