{ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} الظاهر أن هذه الآية وما قبلها من آيات ، من قوله تعالى:{ حرمت عليكم الميتة والدم} نزلت في يوم واحد ، ولذلك كان قوله{ اليوم أحل} إلى آخره هو ذات اليوم في قوله تعالى:{ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} ، وقوله:{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي . . .} فهو يوم واحد ، لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان المقصود واحدا ، وهذا الكلام السامي كله نزل يوم عرفة وهو تسجيل لأحكام باقية إلى يوم القيامة والطيبات هي ما ذكر في الآية السابقة ، وهي الحلال غير المستقذر طبعا وفطرة ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل أيضا ، والجمهور قد اتفقوا على أن الطعام هو الحيوان الحلال لقوله تعالى:{ أحل لكم صيد البحر وطعامه متعا لكم وللسيارة . . .( 96 )} ، ولقوله تعالى:{ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} ( آل عمران ) ، ولقوله تعالى:{ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا . . .( 145 )}( الأنعام ) .
وقد قال بعض الشيعة:إن المراد من الطعام هنا هو البر ، وغيره من الحبوب والأطعمة غير الذبائح أما الذبائح فلا تحل خشية ألا يذكروا اسم الله تعالى عليها ، وفي الغالب يذكرون غيره .
والجمهور على حل ذبائح أهل الكتاب إذا أهريق الدم ، وقد اتفق الجمهور على حل هذه الذبائح والخلاف عندهم فيما عدا الذبائح التي ثبت حلها بالنص ، وأما غير الذبائح فهو قسمان:القسم الأول:ما لا عمل لهم فيه كالفاكهة والبر ، وهو حلال بالاتفاق ، والقسم الثاني:ما لهم فيه عمل وهو قسمان أيضا:أحدهما:ما يحتمل دخول النجاسات فيه كاستخراج الزيوت من النباتات أو الحيوانات وهذا قد اختلف فيه الفقهاء فمنهم من منعه لاحتمال النجاسة ومن هؤلاء ابن عباس لأن احتمال النجاسة ثابت ، وهو يمنع الحل وقد اتبع هذا الرأي بعض المالكية ومن هؤلاء الطرطوشي وقد صنف في تحريم جبن النصارى ويجري مجرى الجبن الزيت ، وعلى هذا الرأي يجري مجراها السمن الهولاندي وما شابهه ، ولكن الجمهور على جواز ذلك ما دام لم يثبت أنه اختلط بهذا النوع من الطعام نجاسة .
والمحرم ما ثبت أنه قد دخله نجاسة بأن دخله أجزاء من الخمر أو الميتة أو الخنزير أو غير ذلك من المحرمات .
{ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} الإحصان يطلق على أربعة معان:الإسلام ولا موضع له هنا لأن الكلام في غير المسلمات والثاني التزوج ، ولا موضع له هنا أيضا لأن المتزوجة لا تحل مسلمة أو كتابية والثالث العفة والرابع الحرية وهذان المعنيان لهما موضع القول فبعض الفقهاء قرر أن المراد بالمحصنات من أهل الكتاب العفيفات ويكون الوصف للترغيب في طلب العفة والعمل على الانتقاء والاختيار وعلى هذا الرأي يصح الزواج من الكتابيات سواء أكن حرائر أم كم إماء ، ويروى في ذلك أن النبي صل الله عليه وسلم تزوج مارية القبطية ، وهي أمة{[872]} .
وبعض الفقهاء ومنهم الشافعية قالوا:إن المراد بالمحصنات من أهل الكتاب الحرائر فلا يحل من نساء أهل الكتاب إلا الحرائر وقد ذكر هذا بقوله تعالى:
{ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات . . .( 25 )}( النساء ) .
فقيد زواج الإماء هنا بأن يكن من المؤمنات كذلك قيد زواج الكتابيات هنا بأن يكن من الحرائر .
والشيعة يمنعون زواج الكتابيات على اعتبار أنهن يشركن في عبادتهن والله تعالى يقول:{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم . . .( 221 )}( البقرة ) ولكن إجماع غير الشيعة قد انعقد على إباحة الزواج من الكتابيات .
وقد ذكر سبحانه وتعالى وجوب المهور لهن ، فقال تعالى:{. . .إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخذان . . .( 5 )} أي إذ آتيتموهن مهورهن وسمي المهر هنا أجرا لتأكيد وجوبه ، وقد قال تعالى من قبل:{ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة . . .( 4 )} أي عطاء فذكر الأجر في هذا المقام لكيلا يكون ثمة استهانة بأي حق من حقوقهن كما أكد العمل على عفتهن بقوله تعالى:{ محصنين غير مسافحين} أي طالبين بهذا الزواج الإعفاف والصون لأنفسكم وأنفسهن ، وحماية عرضكم وعرضهن فمعنى الإحصان هنا العفة بأن يجعل نفسه في حصن من الزنا ويجعلها في حصن مثله ، والسفاح الزنا ، والمسافح كالمسافحة الذي يرتكب الفحشاء مع أي امرأة يلقاها فيقضي معها الفحشاء . واتخاذ الخدن أي اتخاذ الخليلة ، وأن يختص بامرأة وتختص به من غير عقد نكاح مدة أو من غير مدة وهذه هي المتعة بعينها التي تبيحها بعض الطوائف وهي بقية من بقايا الجاهلية والمعنى طالبين حصن الزواج غير طالبين الزنا العلني أو السري والله محيط بكل شيء .
وزواج الكتابيات قد يغري بالانحراف عن الدين كما نرى في عصرنا ، ولذا كان عمر ينهى عنه كبار الصحابة كطلحة بن عبيد الله ، ولذا حذر سبحانه من الكفر بعد هذه الإباحة فقد قال تعالى:{ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} .
أصل الحبط:هو تلف الدابة من كثرة ما تتناول من طعام لا يناسبها والإيمان هنا الشرائع والأحكام ، والكفر بها الاستهانة بها وعدم الأخذ بما تدعو إليه ، والمعنى:ومن ينحرف عن دينه ولا يؤمن ويذعن لأحكام الإسلام فقد تلف ما كان يعمله من خير وذهب وهو في الآخرة من الخاسرين ، ولم يقل سبحانه في هذا المقام ومن يكفر بالله بل قال:{ ومن يكفر بالإيمان} للإشارة إلى أن الإغراء بإفساد الدين من جهة النساء يبتدئ بالأعمال ثم ينتهي إلى العقيدة ، وهو سبحانه الذي يقي النفوس من الزلل ويحفظها من الشر ، اللهم احفظ قلوبنا فلا تزيغ ، ونفوسنا فلا تنحرف وعقولنا فلا تضل إنك سميع الدعاء .