ثم قال عز وجل{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} للاتصال بين الآية وما قبلها مناسبة غير سرد أحكام الطعام ، وبيان أحكام الحلال والحرام ، وهي أن سبب مشروعية التذكية التفصي من أكل المشركين للميتة ، وسبب التشديد في التسمية على الطعام من صيد وذبيحة هو إبعاد المسلمين عما كان عليه المشركون من الذبح لغير الله تعالى بالإهلال به لأصنامهم أو وضعها على النصب ، واستبدال اسم الله وحده بتلك الأسماء التي سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان ، ليطهرهم من أكل ما كانوا عليه من أدران الشرك .ولما كان أهل الكتاب في الأصل أهل توحيد ثم سرت إليهم نزغات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين ولم يشددوا في الفصل بينهم وبين ماضيهم ، وكان هذا مظنة التشديد في مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم ، كما شدد في أكل ذبائح مشركي العرب ونكاح نسائهم ، بين الله لنا في هذه الآية أن لا نعامل أهل الكتاب معاملة المشركين في ذلك ، فأحل لنا مؤاكلتهم ونكاح نسائهم .وقد يستشكل إحلال الطيبات في ذلك اليوم على القول بأن المراد به يوم عرفة سنة حجة الوداع فإن حلها ذكر في بعض السور المكية كالأعراف .ويجاب بأن المراد أنها كانت حلالا بالإجمال فلما حرم الله يوم إنزال هذه السورة أنواع الخبائث التي تدخل في عموم الميتة كما تقدم في الآية السابقة وكانت العرب تستحلها ، ونفي تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من طيبات الأنعام وكانت العرب تحرمها ، وصار حل الطيبات مفصلا تمام التفصيل وحكمه مستقرا دائما ، فهذا هو المراد بالنص ، وقيل إنه تمهيد لما بعده .
وفسر الجمهور الطعام هنا بالذبائح أو اللحوم لأن غيرها حلال بقاعدة أصل الحل ولم تحرم من المشركين ، وإلا فالظاهر أنه عام يشملها .ومذهب الشيعة أن المراد بالطعام الحبوب أو البر لأنه الغالب فيه ، وقد سئلت عن هذا في مجلس كان أكثره منهم وذكرت الآية ، فقلت ليس هذا هو الغالب في القرآن فقد قال الله تعالى في هذه السورة أي المائدة{ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة} [ المائدة:96] ولا يقول أحد إن الطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب .وقال{ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} [ آل عمران:93] ولم يقل أحد أن المراد بالطعام هنا البر أو الحب مطلقا إذ لم يحرم شيء منه على بني إسرائيل لا قبل التوراة ولا بعدها .فالطعام في الأصل كل ما يطعم أي يذاق أو يؤكل ، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت{ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} [ البقرة:249] وقال{ فإذا طعمتم فانتشروا} [ الأحزاب:53] أي أكلتم .وليس الحب مظنة التحليل والتحريم وإنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك بوصف حسي كموت الحيوان حتف أنفه وما في معناه ، أو معنوي كالتقرب به إلى غير الله عليه ، ولذلك قال تعالى:{ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا} [ الأنعام:145] الآية ، وكله يتعلق بالحيوان ، وهو نص في حصر التحريم فيما ذكر فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص .
وقد شدد الله فيما كان عليه مشركو العرب من أكل الميتة بأنواعها المتقدمة والذبح لغير الأصنام لئلا يتساهل به المسلمون الأولون تبعا للعادة .وكان أهل الكتاب أبعد منهم عن أكل الميتة والذبح لغير الله ، ولأنه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى في الجزيرة منهم أحد إلا ويدخل في الإسلام وخفف في معاملة أهل الكتاب استمالة لهم ، حتى أن ابن جرير روى عن أبي الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله قال ابن زيد:أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا ، وأما أبو الدرداء فقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها جرجس أهدوه لها أنأكل منه ؟ فقال أبو الدرداء للسائل:اللهم عفوا إنما هم أهل كتاب طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم ، وأمره بأكله .
وروى ابن جرير أيضا وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله ( وطعام الذي أوتوا الكتاب حل لكم ) قال ذبائحهم ، وروى مثله عبد بن حميد عن مجاهد ، وعبد الرزاق عن إبراهيم النخعي .وقد أجمع الصحابة والتابعون على هذا ، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية ، ووضعت له السم في ذراعها .وكان الصحابة يأكلون من الطعام النصارى في الشام بغير نكير ولم ينقل عن أحد منهم خلاف إلا في بني تغلب وهم بطن من العرب انتسبوا إلى النصارى ولم يعرفوا من دينهم شيئا فنقل عن علي كرم الله وجهه أنه لم يجز أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم معللا ذلك بأنهم لم يأخذوا من النصارى إلا شرب الخمر ، يعني أنهم على شركهم لم يصيروا أهل كتاب ، واكتفى جمهور الصحابة بانتمائهم إلى النصرانية .روى ابن جرير عن عكرمة قال سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب فقرأ هذه الآية{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [ المائدة:51] وفي رواية له أنه قال:كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم فإن الله تعالى قال – وقرأ الآية – فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم ، أي يكفي في كونهم منهم نصرهم لهم وتوليهم إياهم في الحرب .
ولما كان من شأن كثير من الناس التعمق في الأشياء وحب التشديد مع المخالفين استنبط بعض الفقهاء في هذا المقام مسألة جعلوها محل النظر والاجتهاد ، وهي:هل العبرة في حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم بمن كانوا يدينون بالكتاب ( كالتوراة والإنجيل ) كيفما كان كتابهم وكانت أحوالهم وأنسابهم ، أم العبرة باتباع الكتاب قبل التحريف والتبديل ، وبأهله الأصليين كالإسرائيليين من اليهود ؟ المتبادر من نص القرآن ومن السنة وعمل الصحابة أنه لا وجه لهذه المسألة ولا محل ، فالله تعالى قد أحل أكل طعام أهل الكتاب ونكاح نسائهم على الحال التي كانوا عليها في زمن التنزيل وكان هذا من آخر ما نزل من القرآن وكان أهل الكتاب من شعوب شتى وقد وصفهم بأنهم حرفوا كتبهم ونسوا حظا مما ذكروا في هذه السورة نفسها كما وصفهم بمثل ذلك فيما نزل قبلها .ولم يتغير يوم استنبط الفقهاء تلك المسألة شيء من ذلك .وقد تقدم في تفسير قوله تعالى:{ لا إكراه في الدين} [ البقرة:156] أن سبب نزولها محاولة بعض الأنصار إكراه أولاد لهم كانوا تهودوا على الرجوع إلى الإسلام ، فلما نزلت أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتخييرهم ، ولا شك أنه كان في يهود المدينة وغيرهم كثير من العرب الخلص ، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون بينهم في حكم من الأحكام .
واستنبط بعضهم علة أخرى لتحريم طعام أهل الكتاب والتزوج منهم وهي إسناد الشرك إليهم في سورة التوبة بقوله تعالى:{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون} [ التوبة:31] مع قوله في سورة{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [ البقرة:221] وهذا هو عمدة الشيعة في المسألة ، وأجيب عنه ( أولا ):بأن الشرك المطلق في القرآن إذا كان وصفا أو عد أهله صنفا من أصناف الناس لا يدخل فيه أهل الكتاب بل يعدون صنفا آخر مغايرا لهذا الصنف كما قال تعالى:{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} [ البينة:1] وقال{ إن الذين آمنوا والذين هادوا الصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [ الحج:17] الآية .
و( ثانيا ):بأننا إذا فرضنا أن المشركين في آية البقرة عام فلا مندوحة لنا عن القول بأن هذه الآية قد خصصته أو نسخته لتأخرها بالاتفاق ولجريان العمل عليها ، ومنه أن حذيفة بن اليمان من أكبر علماء الصحابة قد تزوج يهودية ولم ينكر أحد من الصحابة .
فقوله تعالى:{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} معناه أنهن حل لكم مطلقا لأنه معطوف على قوله ( طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) وهل المحصنات هنا الحرائر أو العفيفات أي غير الزواني فلا فرق بين المسلمة والكتابية ؟ خلاف سيأتي تحقيقه .وخص بعضهم الكتابية بالذمية وقال بعضهم إنه عام فلا فرق بين الذمية والحربية ، ومن قال المراد بالمحصنات الحرائر منع نكاح الكتابية المملوكة ، وبه قال الشافعي .وقووه بقوله تعالى في سورة النساء{ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [ النساء:25] وقد يقال إن هذا علق هنالك على العجز عن المحصنات المؤمنات فقط لأن الله تعالى لم يكن أحل المحصات الكتابيات وقد أحلهن هنا فصارت حرائرهن كحرائر المسلمات وإماؤهن كإمائهن ، وقول الشافعي اجتمع في الأمة الكتابية نقصان الكفر والرق ، لا يقتضي التحريم ، وإنما المقتضى له نص الشارع ، ككون المراد بالمحصنات الحرائر وهو محل النظر والخلاف ، وأيده ابن جرير بأمر عمر بتزويج من زنت وكادت تبخع نفسها فانقذت وبعد البرء استشير وروى عدة روايات في هذا المعنى ، كأنه يريد أن العفة لا تشترط في النكاح وأن عمر كان يجيز نكاح الزانية ، وليس هذا هو مراده وإنما أراد أنها خرجت بالتوبة عن كونها زانية .
والروايات صريحة في ذلك .ففي بعضها:أليس قد تابت ؟ قال السائل بلى .وفي رواية المرأة الهمدانية التي شرعت في ذبح نفسها فأدركوها فداووها فبرئت ، قال لهم:وانكحوها نكاح العفيفة المسلمة ، وفي رواية له:أن رجلا من أهل اليمن أصابت أخته فاحشة فأمرت الشفرة على أوداجها فأدركت فدوى جرحها حتى برئت ، ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة فقرأت القرآن ونسكت حتى كانت من أنسك نسائهم ، فخطبت إلى عمها وكان يكره أن يدلسها ويكره أن يفشي على ابنة أخيه ، فأتى عمر فذكر ذلك ، فقال عمر:لو فشيت عليها لعاقبتك ، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه .وفي رواية أخرى:أتى رجل عمر فقال إن ابنة لي كانت وئدت في الجاهلية فاستخرجتها قبل أن تموت فأدركت الإسلام فلما أسلمت أصابت حدا من حدود الله فعمدت إلى الشفرة لتذبح بها نفسها فأدركتها وقد قطعت ببعض أوداجها فداويتها حتى برئت ، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة فهي تخطب إلي يا أمير المؤمنين فأخبر من شأنها بالذي كان ؟ فقال عمر أتخبر بشأنها تعمد إلى ما ستره الله فتبديه ؟ والله لئن أخبرت بشأنها أحدا من الناس لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار ، بل انكحها بنكاح العفيفة المسلمة .
وروى ابن جرير أيضا عن الحسن قال:قال عمر بن الخطاب:لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة .؟ قال له أبي بن كعب:يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك وقد يقبل منه إذا تاب اه .
والإباضية يشددون في النكاح بعد الزنا لا فرق عندهم بين من تاب ومن لم يتب ، ولما كنت في مسقط في العام الماضي ( 1330 ) كانت قد عرضت واقعة في ذلك على السلطان السيد فيصل فسألني عنها فقلت:إن الأصل في هذه المسألة قوله تعالى:{ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [ النور:3] ولما كانت التوبة من الشرك تبيح نكاح التي آمنت وإنكاح الذي آمن والشرك أقوى المانعين والإباضية مجمعون مع سائر المسلمين على ذلك كان ينبغي بالأولى أن يجيزوا مثل ذلك في التوبة من الزنا ، وهو ما أجمع عليه سائر المسلمين .
روي القول بأن المراد بالمحصنات هنا الحرائر عن ابن عباس ومجاهد واختاره ابن جرير – والقول بأنهن العفيفات عن مجاهد أيضا وعن سفيان والحسن والشعبي والسدي والضحاك وزاد بعضهم الاغتسال من الجناية .قال الشعبي وعامر:إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني وأن تغتسل من الجنابة .
وجملة القول أن مفسري السلف اختلفوا في المحصنات هنا ، فقال جماعة منهم:هن الحرائر ، وجماعة:هن العفائف عن الزنا .وكلا المعنيين صحيح .فإذا جاز استعمال اللفظ فيهما على قول من يقول باستعمال المشترك في معنييه واللفظ في حقيقته ومجازه فهو يتناولهما معا ، وإلا فالراجح المختار أن المراد بالمحصنات هنا الحرائر ، وتحريم نكاح الزواني يعرف من آية سورة النور وما هنا لا ينافيه ، ذلك بأن نكاح الإماء المسلمات يشترط فيهن العجز عن الحرائر كما في سورة النساء وتقدم آنفا ، فالكتابيات بالأولى ، والحل هنا مطلق في الفريقين وإنما يصح الإطلاق في الحرائر دون الإماء بالإجماع ، ولم يقل أحد من المسلمين بنسخ ما اشترط في نكاح الأمة هنالك بما هنا .وتفسير المحصنات بالعفائف لا يدخل في عمومه الإماء بالنص ، لأن الأصل في الخطاب الأحرار والحرائر ، والرق أمر عارض ولذلك احتيج إلى النص على نكاحهن في سورة النساء ، والغالب فيهن عدم العفة ، فإذا صح هذا خلافا لمن أدخل الإماء في عمومه من المفسرين لا يبقى وجه لإحلال الأمة الكتابية إلا القياس على الأمة المسلمة .ومن قال إن الأمة تدخل في عموم المحصنات بمعنى العفيفات فلا مندوحة له عن اشتراط عدم نكاح حرة مسلمة أو كتابية لصحة نكاحها ، إما بقياس الأولى وإما باعتبار ذلك الشرط نفسه هنا من قبيل تقييد المطلق بقيد المقيد وعليه الجمهور في حال اتحاد الحكم والسبب كما هنا ، ونقل بعضهم الاتفاق عليه كأنه لضعف الخلاف فيه لم يعتد به .
وقد استدل بعضهم بقوله تعالى:{ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على أن المراد بالمحصنات الحرائر لأن معناه إذا أعطيتموهن مهورهن والأمة لا تأخذ مهرها وإنما يأخذه المالك ، ويرده قوله تعالى{ ولم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} – إلى قوله تعالى –{ واتوهن أجورهن} [ النساء:25] فهو عين ما هنا .وقد رجحنا في تفسير تلك الآية القول بأن مهر الأمة حق لها على الزوج لا لمولاها وهو مذهب مالك .ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن الإماء لا يعطين مهورهن – والله عز وجل يقول{ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ولا خلاف في أن الأجور هي المهور ؟ غاية ما يقوله الذين يقولون إن الأمة لا تملك شيئا ولا يستثنون المهر من قاعدتهم بدليل الآية:أن للسيد أن يبقي لها المهر الذي تأخذه من زوجها وأن يأخذه بحق الملك .
ولك أن تقول إن دلالة قوله تعالى:{ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} على ترجيح كون المراد بالمحصنات العفائف أقوى مما ذكر إذ يكون الشرط في الرجال عين الشرط النساء ، وقوله:( محصنين ) هنا حال وهي قيد في عاملها فتفيد الشرطية .أي هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلا أو فرضا حال كونكم محصنين الخ والمراد بالمحصنين هنا الأعفاء عن الزنا فعلا أو قصدا دون الأحرار لأنهم الأصل في الخطاب ولا نعلم في هذا خلافا ، ويطلق المحصن بكسر الصاد بمعنى اسم الفاعل وبمعنى اسم المفعول فالزواج يقصد به أن يكون الرجل محصنا والمرأة محصنة يعف كل منها الآخر ويجعله في حصن يمنعه من الفاحشة جهرا أو على الشيوع وهو المراد بالمسافحة ، أو سرا أو اختصاصا باتخاذ خدن من الأخدان – وهو يطلق على الصاحب والصاحبة – بأن يكون للمرأة صاحب أو خليل يزني بها سرا ولا يكون للرجل امرأة كذلك .وقد تقدم تفسير مثل هذا في سورة النساء .
روى ابن جرير عن قتادة أنه قال:( ذكر لنا أن أناسا من المسلمين قالوا:كيف نتزوج نساءهم يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا ؟ فأنزل الله عز ذكره:{ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} فأحل الله تزوجهن على علم اه .والذي أراه أن هذه الجملة نزلت مع الآية لا متأخرة عنها ، وأن ما قاله قتادة عن الصحابة ( رض ) معناه أنه لما استغرب بعضهم نكاح نساء أهل الكتاب واستنكروه – وكأنهم كانوا قريبي عهد بالإسلام – أنكر عليهم ذلك أهل العلم ووعظوهم بهذه الجملة التي ختمت بها الآية ، ومعناها أن الإيمان لا يكون إلا بالإذعان لما أحله الله وحرمه ومن كفر بما يجب عليه الإيمان به من كتاب الله حبط عمله أي بطل ثوابه وخسر في الآخرة ما أعده الله للمؤمنين من الجزاء العظيم على الإيمان الصحيح وهو إيمان الإذعان والعمل .
روى ابن جرير عن مجاهد وعطاء تفسير ( يكفر بالإيمان ) بالكفر بالله عز وجل ، عن ابن عباس أنه قال في الآية ( أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى وأنه لا يقبل عملا إلا به ولا يحرم الجنة إلا على من تركه ) ووجه ابن جرير قول مجاهد بأنه تفسير بالمراد لا بظاهر اللفظ ، وذلك أن الإيمان هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه والكفر جحود ذلك ، وفسرها هو على الوجه الذي يعطيه ظاهر اللفظ بقوله:ومن يأب الإيمان بالله ويمنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه فقد حبط عمله ، وذلك الكفر هو الجحود في كلام العرب ، والإيمان التصديق والإقرار ، ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به فهو من الكافرين اه .ووجه الرازي قول مجاهد وعزاه إلى ابن عباس أيضا بأنه مجاز حسنه أن الله تعالى رب الإيمان ورب كل شيء .وجعل الإيمان بمعنى القرآن في قوله قتادة أنها نزلت فيمن استنكروا نكاح الكتابيات ، أي من حيث اشتماله على ما ذكر من الأحكام .وفسره الزمخشري بشرائع الإسلام وما أحل الله وحرم .أي كما ذكر في الآية .وتبعه على ذلك البيضاوي وغيره .
ومجمل معنى الآية:اليوم أحل لكم الطيبات من الطعام ، فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لهم كذلك أيضا ، فلكم أن تأكلوا من اللحوم التي ذكوا حيوانها أو صادوا كيفما كانت تذكيته وصيده عندهم ، وأن تطعموهم مما تذكون وتصطادون ، ويدخل في ذلك لحم الأضحية خلافا لمن منعه ، ولا يخرج منه إلا ما كان خاصا بقوم لا يشملهم وصفهم كالمنذور على أناس معينين بالذوات أو بالوصف .والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم حل لكم كذلك بمقتضى الأصل وما قرره في الآية النساء{ وأحل لكم ما وراء ذلكم} [ النساء:25] لم يحرمهن الله عليكم إذا أعطيتموهن مهورهن التي تفرضونها لهن عند العقد والأوجب لهن مهر المثل – بشرط أن يكونوا قاصدين بالزواج إحصان أنفسكم وأنفسهن لا الفجور المراد به سفح الماء جهرا ولا سرا .وسيأتي بيان ما هو الاحتياط وبحث اختلاف الزمان وفي المسألة .
والتعبير بقوله:{ اليوم أحلت لكم الطيبات} إنشاء لحلها العام الدائم كما تقدم ، ولكنه لم يقل مثل ذلك فيما بعده بل قال:( حل لكم ) وهو خبر مقرر للأصل في المسألتين – مسألة مؤاكلة أهل الكتاب ومسألة نكاح نسائهم – فلم يكن شيئا منهما محرما من قبل وأحل في ذلك اليوم لا بتحريم من الله ولا بتحريم الناس على أنفسهم كما حرموا بعض الطيبات .فهذا ما ظهر لنا من نكتة اختلاف التعبير ، وسكت عنه الباحثون في نكت البلاغة الذين اطلعنا على كلامهم .وحكمة النص على هذا الحل قطع الطريق على الغلاة أن يحرموه باجتهادهم أو أهوائهم ، على أن منهم من حرمه مع النص الصريح ، ونص على أن طعامنا حل لهم دون نسائنا فليس لنا أن نزوجهم منا ، وأن كمال الإسلام وسماحته لا يظهران من المرأة لسلطان الرجل عليها .هذا هو المتبادر لمن يفهم العبارة مجردا من تقليد المذاهب ، فمن فهم مثل فهمها ففهمه حاكم عليه ، ولا نجيز لأحد أن يقلدنا فيه تقليدا .
فصل في طعام الوثنيين ونكاح نسائهم
أخذ الجماهير من مفهوم أهل الكتاب أن طعام الوثنيين لا يحل للمسلمين وكذا نكاح نسائهم ، سواء منهم من يحتج بمفهوم المخالفة في اللقب كالدقاق وبعض الشافعية ومن لا يحتج به وهم الجمهور .والقرآن لم يحرم طعام الوثنيين ، ولا طعام مشركي العرب مطلقا كما حرم نكاح نسائهم بل حرم ما أهل به لغير الله من ذبائحهم ، كما حرم ما كان يأكله بعضهم من الميتة والدم المسفوح وحرم لحم الخنزير .واختلف الفقهاء في المجوس والصابئين ، فالصابئون عند أبي حنيفة كأهل الكتاب ، والمجوس كذلك عند أبي ثور خلافا للجمهور الذين يقولون إنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط ، ويروون في ذلك حديثا:( سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم ){[678]} ، ولا يصح هذا الاستثناء كما صرح به المحدثون ، ولكنه اشتهر عند الفقهاء ، ويقال إن الفريقين كانا أهل كتاب فقدوه بطول الأمد .وهذا ما كنت أعتقده قبل أن أرى فيه نقلا عن أحد من سلفنا وعلماء الملل والتاريخ منا وذكرته في المنار غير مرة .ثم رأيت في كتاب ( الفرق بين الفرق ) لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي ( المتوفى سنة 429 ) في سياق الكلام على الباطنية:( أن المجوس يدعون نبوة ( زرادشت ) ونزول الوحي عليه من عند الله تعالى ، والصابئين يدعون نبوة ( هرمس ) و( واليس ) و( دوريتوس ) و( أفلاطون ) وجماعة من الفلاسفة ، وسائر أصحاب الشرائع كل صنف منهم مقرون بنزول الوحي من السماء على الذين أقروا بنبوتهم ويقولون إن ذلك الوحي شامل للأمر والنهي والخبر عن عاقبة الموت وعن ثواب وعقاب وجنة ونار يكون فيهما الجزاء عن الأعمال السالفة ) ثم ذكر أن الباطنية ينكرون ذلك .
وقد نشرنا في فتاوى المجلد الثاني عشر من المنار سؤالا من جاوه عن تزوج المسلم بغير المسلمة كالوثنية الصينية ، وأجبنا عنه بما نصه ( ص 262 ):
ذهب بعض السلف إلى أنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج بغير المسلمة مطلقا ، ولكن الجمهور من السلف والخلف على حل الزواج بالكتابية وحرمة الزواج بالمشركة ، ويريدون من الكتابية اليهودية والنصرانية وأحل بعضهم المجوسية أيضا ، والمشركة الوثنية مطلقا ، بل عدوا جميع الناس وثنيين ما عدا اليهود والنصارى ، ومن الناس من قال إنهم من المشركين ، ولكن التحقيق أنهم لا يطلق عليهم لقب المشركين لأن القرآن عند ما يذكر أهل الأديان يعد المشركين أو الذين أشركوا صنفا وأهل الكتاب صنفا آخر عندما يعطف أحدهما على الآخر ، والعطف يقتضي المغايرة يقتضي المغايرة كما هو مقرر ، وكذا المجوس في قول وسيأتي بيان ذلك .
والذي كان يتبادر إلى الذهن من مفهوم لفظ المشركين في عصر التنزيل مشركي العرب إذ لم يكن لهم كتاب ولا شبهة كتاب بل كانوا أميين .
والأصل في الخلاف في المسألة آيتان في القرآن إحداهما في سورة البقرة وهي قوله تعالى:{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [ البقرة:221] الآية .والثانية في المائدة وهي قوله عز وجل:{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} [ المائدة:5] وقد زعم من حرم التزوج بالكتابيات أن هذه الآية منسوخة بتلك وردوه بأن سورة المائدة نزلت بعد سورة البقرة وليس فيها منسوخ فإن فرضنا أن أهل الكتاب يدخلون في عداد المشركين يجب أن تكون آية المائدة مخصصة لآية البقرة مستثنية أهل الكتاب من عمومها وإلا فهي نص مستقل في جواز التزوج بنسائهم .
وقد سكت القرآن عن النص الصريح في حكم التزوج بغير المشركات والكتابيات من أهل الملل الذين لهم كتاب أو شبهة كتاب كالمجوس والصابئين ومثلهم البوذيون والبراهمة وأتباع كونفوشيوس في الصين ، وقد علمت أن علماءنا الذين حرص بعضهم على إدخال أهل الكتاب في عداد المشركين لا يترددون في إدخال هؤلاء كلهم في عموم المشركين ، وإن ورد في الكتاب والسنة ما هو صريح في التفرقة والمغايرة .فكما غاير القرآن بين المشركين وأهل الكتاب خاصة في مثل قوله:{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} [ البينة:1] وقوله:{ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} [ آل عمران:186] وذكر أهل الكتاب بقسميهم في معرض المغايرة في قوله:{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [ المائدة:82] الآية .
كذلك ذكر الصابئين والمجوس وعدهم صنفين غير أهل الكتاب والمشركين والمسلمين فقال في سورة الحج:{ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفضل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [ الحج:17] فهذا العطف في مقام تعداد أهل الملل يقتضي أن يكون كل من الصابئين والمجوس طائفتين مستقلتين ليستا من الصنف الذي يعبر عنه الكتاب بالمشركين وبالذين أشركوا .وذلك أن كلا من الصائبين والمجوس عندهم كتب يعتقدون أنها إلهية ولكن بعد العهد وطول الزمان جعل أصلها مجهولا لنا ولا يبعد أن يكون من جاؤوا بها من المرسلين لأن الله تعالى يقول:{ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [ فاطر:24] وقال:{ إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} [ الرعد:7] وإنما قويت فيهم الوثنية لبعد العهد بأنبيائهم على القاعدة المفهومة من قوله تعالى:{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقسمت قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [ الحديد:17] .
ومعلوم أن فسق الكثير من أهل الكتاب عن هداية كتبهم ، ودخول نزعات الوثنية والشرك عليهم ، لم يسلبهم امتيازهم في كتاب الله على المشركين وعدهم صنفا آخر ، كما أن فسق الكثيرين من المسلمين عن هداية القرآن ودخول نزعات الوثنية في عقائدهم لا يخرجهم من الصنف الذين يطلق عليه لفظ المسلمين ولفظ المؤمنين وإن كانوا هم الذين يعنيهم الخطباء على المنابر بقولهم:( لم يبق من الإسلام إلا اسمه ) ويطبق العلماء عليهم حديث الصحيحين ( لتتبعين سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ) قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال:( فمن ) ؟{[679]} وبهذا يرد قول من حاولوا إدخال أهل الكتاب في المشركين وتحريم التزويج بنسائهم مستدلين بقوله تعالى بعد ذكر اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله:{ سبحانه وتعالى عما يشركون} [ التوبة:31] فإن إطلاق اللقب على صنف من أصناف الناس لا يقتضي مشاركة صنف آخر له فيه إن أسند إليه مثل فعله كما بيناه في تفسير آية:{ ولا تنكحوا المشركات} [ البقرة:221] لاسيما إذا كان الفعل الذي أسند إلى الصنف الآخر ليس هو أخص صفاته وليس عاما شاملا لأفراده كاتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا يتبعونهم فيما يحلون لهم ويحرمون عليهم ، فإن وصفهم الأخص أتباع الكتاب ، وإن كثيرين منهم يخالفون رؤساءهم في التحليل والتحريم ومنهم الموحدون كأصحاب آريوس عند النصارى وقد كثر في هذا الزمان فيهم الموحدون القائلون بنبوة المسيح بسبب الحرية في أوروبة وأمريكة ، وكانوا قلوا باضطهاد الكنيسة لهم .والظاهر أن القرآن ذكر من أهل الملل القديمة الصابئين والمجوس ولم يذكر البراهمة والبوذيين وأتباع كونفوشيوس لأن الصابئين والمجوس كانوا معروفين عند العرب الذين خوطبوا بالقرآن أولا لمجاورتهم لهم في العراق والبحرين ولم يكونوا يرحلون إلى الهند واليابان والصين فيعرفوا الآخرين ، والمقصود من الآية حاصل بذكر من ذكر من الملل المعروفة فلا حاجة إلى الإغراب بذكر من لا يعرفه المخاطبون في عصر التنزيل من أهل الملل الأخرى ، ولا يخفى على المخاطبين بعد ذلك أن الله يفصل بين البراهمة والبوذيين وغيرهم أيضا .
ومن المعلوم أن القرآن صرح بقبول الجزية من أهل الكتاب ولم يذكر أنها تؤخذ من غيرهم فكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ( رض ) لا يقبلونها من مشركي العرب وقبلوها من المجوس في البحرين وهجر وبلاد فارس كما في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث .وقد روي أخذ النبي الجزية من المجوس في البحرين وهجر وبلاد فارس كما في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث .وقد روى أخذ النبي الجزية من مجوس هجر أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه شهد لعمر بذلك عند ما استشار الصحابة فيه ، وروى الشافعي عنه أنه قال:أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ){[680]} وفي سنده انقطاع واستدل به صاحب المنتقي وغيره على أنهم لا يعدون أهل الكتاب ، وليس بقوي ؛ فإن إطلاق كلمة ( أهل الكتاب ) على طائفتين من الناس لتحقيق أصل كتبهما وزيادة خصائصهما لا يقتضي أنه ليس في العالم أهل كتاب غيرهم مع العلم بأن الله بعث في كل أمة رسلا مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، كما أن إطلاق لقب ( العلماء ) على طائفة معينة من الناس لها مزايا مخصوصة لا يقتضي انحصار العلم فيهم وسلبه عن غيرهم .
وقد ورد في روايات أخرى التصريح بأنهم كانوا أهل كتاب .قال في نيل الأوطار عند قول صاحب المنتقى ( واستدل بقوله سنة أهل الكتاب على أنهم ليسوا أهل كتاب ) ما نصه:لكن روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن علي ( كان المجوس أهل كتاب يدرسونه وعلم يقرؤونه فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم وقال إن آدم كان ينكح أولاده بناته .فأطاعوه وقتل من خالفه ، فأسرى على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه فلم يبق عندهم منه شيء ) وروى عبد بن حميد في تفسير سورة البروج بإسناد صحيح عن ابن أبزى لما هزم المسلمون أهل فارس قال عمر اجتمعوا أي قال للصحابة اجتمعوا للمشاورة كما هي السنة المتبعة والفريضة اللازمة فقال:إن المجوس ليسوا أهل الكتاب فنضع عليهم الجزية ولا من عبدة الأوثان فتجري عليهم أحكامهم .فقال علي بل هم أهل كتاب .فذكر نحوه لكن قال:فوقع على ابنته ، وقال في آخره:فوضع الأخدود لمن خالفه .فهذه حجة من قال:كان لهم كتاب .وأما قول ابن بطال:لو كان لهم كتاب ورفع لرفع حكمه ولما استثني حل ذبائحهم ونكاح نسائهم .فالجواب أن الاستثناء وقع تبعا للأمر الوارد لأن في ذلك شبهة تقتضي حقن الدم بخلاف النكاح فإنه يحتاط له .وقال ابن المنذر ليس تحريم نكاحهم وذبائحهم متفقا عليه ولكن الأكثر من أهل العلم عليه اه .
إذا علمت هذا تبين لك أن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ المشركين والذين أشركوا يتناول جميع الذين كفروا بنبينا ولم يدخلوا في ديننا ولا جميع من عدا اليهود والنصارى منهم ، فهذا نقل صحيح في المجوس ومنه تعلم أن للاجتهاد مجالا ليجعل لفظ المشركات والمشركين في القرآن خاصا بوثنيي العرب وأن يقاس عليهم من ليس لهم كتاب ولا شبهة كتاب يقربهم من الإسلام ، كما أن أهل الكتاب فيه خاص باليهود والنصارى ويقاس عليهم من عندهم كتب لا يعرف أصلها ولكنها تقربهم من الإسلام بما فيها من الآداب والشرائع كالمجوس وغيرهم ممن على شاكلتهم .وقد صرح قتادة من مفسري السلف بأن المراد بالمشركين والمشركات في الآية العرب كما سيأتي .
وعلى هذا لا يكون قوله تعالى:{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} نصا قاطعا في تحريم نكاح الصينيات الذي أكثر منه المسلمون في الصين وانتقل الاقتداء بهم فيه إلى جاوه أو كاد وقد كان ذلك من أسباب انتشار الإسلام في الصين .ولا أدري مبلغ أثره في ذلك عندكم ( الخطاب للمستفتي ) وبنفي كونه نصا قاطعا في ذلك لا يكون استحلاله كفرا وخروجا من الإسلام وإلا لساغ لنا أن نحكم بكفر من لا يحصى من مسلمي الصين .
هذا وإن المشهور عند العلماء أن الأصل في النكاح الحرمة وإن كان الأصل في سائر الأشياء الإباحة ، وعلى هذا لا بد من النص في الحل .ويمكن أن يقال إذا لم نقل بأن هذا يدخل في القاعدة العامة أن الأصل الإباحة في كل شيء ( حتى يرد النص بحظره ) فإننا نرد الأمر إلى الكتاب العزيز فنسمعه يقول بعد النهي عن نكاح أزواج الآباء:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [ النساء:23 ، 24] الآية .
فنقول على أصولهم إن قوله تعالى:{ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} لا يخلو أن يكون قد نزل بعد ما جاء في البقرة من النهي عن نكاح المشركات وفي سورة النور من تحريم نكاح المشركة والزانية أو قبله ، فإن كان نزل بعده صح أن يكون ناسخا له ، وإن كان نزل قبله يكون تحريم نكاح المشركة والزانية مستثنى من عموم{ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} بطريق التخصيص سواء سمي نسخا أم لا ، كما يستثنى منه ما ورد في الحديث من منع الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها قياسا على تحريم الجمع بين الأختين أو إلحاقا به ، وجعل ما يحرم من الرضاع كالذي يحرم من النسب ، على القول المشهور في الأصول بجواز تخصيص القرآن بالسنة .على أن الجمهور أحلوا التزوج بالزانية .وعلى كل حال يكون نكاح الكتابيات ومن في حكمهن ( كالمجوسيات عند من قال بذلك كما نقل الحافظ ابن المنذر ) داخلا في عموم نص ( وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ) وأكد حل نكاح الكتابيات في سورة المائدة التي نزلت بعد ما تقدم كله .
وخلاصة ما تقدم أن نكاح الكتابيات جائز لا وجه لمنعه ونكاح المشركات محرم ، وكون لفظ المشركات عاما لجميع الوثنيات أو خاصا بمشركات العرب محل اجتهاد وخلاف بين علماء السلف .قال ابن جرير في تفسير ( لا تنكحوا المشركات ):( وقال آخرون بل أنزلت هذه الآية مرادا بحكمها مشركات العرب لم ينسخ منها شيء ) وروي ذلك عن قتادة من عدة طرق وعن سعيد بن جبير ولكن هذا قال:( مشركات أهل الأوثان ) ولم يمنع ذلك ابن جرير من عده قائلا بأنها خاصة بمشركات العرب .ثم قال بعد ذكر سائر روايات الخلاف ( وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة من أنه تعالى ذكره عنى بقوله:( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها لم ينسخ منها شيء ، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها ) الخ ما أطال به في بيان حل نكاح الكتابيات .
هذا ما يظهر بالبحث في الدليل ولكننا لم نطلع على قول صريح لأحد من العلماء في حل التزوج بما عدا الكتابيات والمجوسيات من غير المسلمين ، وقد صرح بحل المجوسية الإمام أبو ثور صاحب الإمام الشافعي الذي تفقه به حتى صار مجتهدا وصرحوا بأن تفرده لا يعد وجها في مذهب الشافعي .فالشافعية لا يبيحون نكاح المجوسية فضلا عن الوثنية الصينية .
ولا يأتي في هذا المقام قول بعض أهل الأصول إن النهي لا يقتضي البطلان في العقود والمعاملات وهو مذهب الحنفية فإنهم استثنوا منه النكاح وعللوا ذلك بأنه عقد موضوع للحل فلما انفصل عنه ما وضع له بالنهي المقتضي للحرمة كان باطلا بخلاف البيع لأن وضعه للملك لا للحل بدليل مشروعيته في موضع الحرمة كالأمة المجوسية فلذلك كان النهي عن شيء منه غير مقتض لبطلان العقد .فلا يقال عندهم إن نكاح الصينية يقع صحيحا وإن كان محرما .
وأما البحث في المسألة من جهة حكمة التشريع فقد بين تعالى ذلك في آية النهي عن التناكح بين المؤمنين والمشركين في آية البقرة بقوله:{ أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} [ البقرة:221] وقد وضحنا ذلك في تفسير الآية وبينا الفرق بين المشركة والكتابية فيراجع في الجزء الثاني من التفسير .ومنه أن أهل الكتاب لكونهم أقرب إلى المؤمنين شرعت موادتهم لأنهم بمعاشرتنا ومعرفة حقيقة الإسلام منا بالتخلق والعمل يظهر لهم أن ديننا هو عين دينهم مع مزيد بيان وإصلاح يقتضيه ترقي البشر ، وإزالة بدع وأوهام دخلت عليهم من باب الدين وما هي من باب الدين في شيء .وأما المشركون فلا صلة بين ديننا ودينهم قط .ولذلك دخل أهل الكتاب في الإسلام مختارين بعد ما انتشر بينهم وعرفوا حقيقته ولو قبلت الجزية من مشركي العرب كما قبلت من أهل الكتاب لما دخلوا في الإسلام كافة ، ولما قامت لهذا الدين قائمة .ومن الفرق بينهما في القرب من الإسلام أو الدعوة إلى النار أن أهل الكتاب لم يكونوا يعذبون من يقدرون عليه من المسلمين ليرجع عن دينه كما كان يفعل مشركو العرب .
ثم إن للإسلام سياسة خاصة في العرب وبلادهم وهي أن تكون جزيرة العرب حرم الإسلام المحمي ، وقلبه الذي تتدفق منه مادة الحياة إلى جميع الأطراف ، وموئله الذي يرجع إليه عند تألب الأعداء عليه ، ولذلك لم يقبل من مشركي جزيرة العرب الجزية حتى لا يبقى فيها مشرك ، بل أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يبقى فيها دينان ، كما بينا ذلك في الفتوى الرابعة المنشورة في الجزاء الثاني ( ص 97 ) من هذا المجلد ( الثاني عشر ) وتدل عليه الأحاديث الواردة في كون الإسلام يأرز في المستقبل إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى حجرها{[681]} .وهذا يؤيد تفسير قتادة المشركين والمشركات في الآية .
إذا كان الازدواج بين المسلمين والمشركين ينافي هذه السياسة التي هي الأصل الأصيل في انتشار الإسلام وكان تزوج المسلمين بالصينيات مدعاة لدخولهن في الإسلام كما هو حاصل في بلاد الصين فلا يكون تعليل الآية للحرمة صادقا عليهن ، وكيف يعطي الضد حكم الضد ؟
وقد حذرنا في التفسير من التزوج بالكتابية إذا خشي أن تجدب المرأة الرجل إلى دينها لعلمها وجمالها وجهله وضعف أخلاقه كما يحصل كثيرا في الزمان في تزوج بعض ضعفاء المسلمين ببعض الأوروبيات أو غيرهن من الكتابيات فيفتنون بهن ، وسد الذريعة واجب في الإسلام اه .
ملخص هذه الفتوى أن المشركات اللاتي حرم الله نكاحهن في آية البقرة هن مشركات العرب ، وهو المختار الذي رجحه شيخ المفسرين ابن جرير الطبري ، وأن المجوس والصابئين ووثني الهند والصين وأمثالهم كاليابانيين أهل كتب مشتملة على التوحيد إلى الآن .والظاهر من التاريخ ومن بيان القرآن أن جميع الأمم بعث فيها رسل وأن كتبهم سماوية طرأ عليها التحريف كما طرأ على كتب اليهود والنصارى التي هي أحدث عهدا في التاريخ ، وأن المختار عندنا أن الأصل في النكاح الإباحة ولذلك ورد النص بمحرمات النكاح ، وأن قوله تعالى بعد بيان محرمات النكاح ( وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ) يفيد حل نكاح نسائهم ، فليس لأحد أن يحرمه إلا بنص ناسخ للآية أو مخصص لعمومها .وقد بينا في تفسير الآية التي نحن بصدد تفسيرها هنا أن الناس أخذوا بمفهوم أهل الكتاب وخصصوا أهل الكتاب باليهود والنصارى .وهذه مفهوم مخالفة منع الجمهور الاحتجاج به في اللقب .ولكن جرى العمل على هذا لأنه موافق للشعور الذي غلب على المسلمين في أول نشأتهم بعزة الإسلام وغلبته ، وظهور انحطاط جميع المخالفين له عن أهله ، ولهذا مال بعض المؤلفين إلى تحريم نكاح الكتابيات المنصوص على حله في آخر سور القرآن نزولا ، فمنهم من تأول النص بأن معنى ( أوتوا الكتاب من قبلكم ) عملوا به قبل الإسلام أو دانوا به قبل التحريف ، وهو تأويل ظاهر الفساد لا يصح لغة ، فإن معنى أوتوه من قبلنا أعطوه أي أنزله الله عليهم ، والمفسرون متفقون على هذا المعنى في كل مكان ورد فيه اللفظ ، وفي معناه قوله تعالى:{ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [ الأنعام:156] ولولا أن هذا هو المعنى لما كان للآية فائدة .
ومنهم من التمس نقلا عن بعض المتقدمين ليجعله حجة على القرآن فوجدوا في بعض الكتب أن ابن عمر منع التزوج بالكتابية متأولا لآية البقرة وأنه قال:لا أعلم شركا أعظم من قولها إن ربها عيسى وهو معارض بما رواه عبد بن حميد عن ميمون ابن مهران قال سألت ابن عمر عن نساء أهل الكتاب فتلا علي هذه الآية{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ* ولا تنكحوا المشركات} اه من الدر المنثور وظاهر معنى العبارة أن الله أحل المحصنات من أهل الكتاب وحرم المشركات من العرب .والقول الأول رواه عنه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم مع التصريح بأنه تأول آية البقرة ، فهو إذا صح اجتهاد منه ولم يقل أحد من الأصوليين إن اجتهاد الصحابي يعمل به في مسألة فيها نص بل منعه الجمهور مطلقا ، ومن قال به اشترط عدم النص وأن لا يكون له مخالف من الصحابة ، أي لئلا يكون ترجيحا بغير مرجح ، وهذا القول مع وجود النص مخالف لما كان عليه سائر الصحابة ومنهم والده عمر أمير المؤمنين فقد روى عنه عبد الرزاق وابن جرير أنه قال:( المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة ) وتمسك بعضهم بقوله تعالى:{ ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [ الممتحنة:10] وهو جهل عظيم فإن هذا نزل في النساء المشركات اللواتي أسلم أزوجهن وبقين على شركهن .وأقول إن الجاهلين بأخلاق البشر يظنون أن الغلظة في معاملة المخالف في الدين هي التي يظهر بها الدين وتعلوا كلمته ، وتنتشر دعوته ، والصواب أن سوء المعاملة هو أعظم المنفرات{ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [ آل عمران:159] وما انتشر الإسلام في العصر الأول بتلك السرعة التي لم يسبق لها نظير في دين من الأديان إلا بحسن معاملة أهله لمن يعاشرونهم ويعيشون معهم ، ولولا ترك الخلف لسنة السلف في ذلك لما بقي في البلاد الإسلامية أحد لم يدخل الإسلام باختياره بل لعم الإسلام العالم كله .نقول هذا تمهيدا لبيان حكمة مؤاكلة أهل الكتاب بلا تحرج من تذكيتهم وحل نسائهم ، وهي أن من غرض الشارع بذلك تألفهم ليعرفوا حقيقة الإسلام الذي هو أصل دينهم فقد أكمله الله تعالى بحسب سنته في الترقي البشري والتدريج في كل شيء إلى أن ينتهي إلى كماله ، وهذا من مناسبات جعل هذه الآية بعد الآية المصرحة بإكمال الدين .
قال الأستاذ الإمام في بيان حقيقة الإسلام من ( رسالة التوحيد ):( التفت إلى أهل العناد فقال لهم{ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [ البقرة:111] وعنف النازعين إلى الشقاق على ما زعزعوا من أصول اليقين ، ونص على أن التفرق بغي وخروج عن سبيل الحق المبين ، ولم يقف في ذلك عند حد الموعظة بالكلام ، والنصيحة بالبيان ، بل شرع شريعة الوفاق وقررها في العمل ، فأباح للمسلم أن يتزوج من أهل الكتاب وسوغ مؤاكلتهم ، وأوصى أن تكون مجادلتهم بالتي هي أحسن ، ومن المعلوم أن المحاسنة هي رسول المحبة وعقد الألفة ، والمصاهرة إنما تكون بعد التحاب بين أهل الزوجين والارتباط بينهما بروابط الائتلاف ، وأقل ما فيها محبة الرجل لزوجته وهي على غير دينه ، قال تعالى:{ خلق لكم من أنفسكم أزوجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [ الروم:21] اه المراد منه .
وإذا كانت الحكمة فيما شرعه الله تعالى من مؤاكلة أهل الكتاب والتزوج منهم هي إزالة الجفوة التي تحجبهم عن محاسن الإسلام بإظهار محاسنه لهم بالمعاملة كما تقدم فينبغي لكل مسلم يريد الزواج منهم أن يكون مظهرا لهذه الحكمة وسالكا سبيلها ، وذلك بأن يكون قدوة صالحة لامرأته ولأهلها في الصلاح والتقوى ومكارم الأخلاق ، فإن لم ير نفسه أهلا لذلك فلا يقدم عليه .وإننا نرى بعض المسلمين من المصريين والترك يتزوجون من نساء الإفرنج ، ولكنهم يستدبرون بذلك هذه الحكمة فيرى أحدهم نفسه دون امرأته ويجعلها قدوة له ولا يرى نفسه أهلا لأن يكون قدوة لها ، ومنهم من يسمح لها بتنصير أولاده .ومثل هؤلاء ليسوا من المسلمين إلا في الجنسية السياسية ، ففتنتهم بالكفر أكبر من فتنتهم بالنساء .والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
تتمة واستدراك في مباحث حل الطعام وحرامه والتذكية والتسمية
كتبنا ما تقدم في تفسير الآية مستعينين على فهمها ببيان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين في الصدر الأول ، وذلك شأننا في فهم كتاب الله عز وجل ونستعين عليه بما ذكر وبأساليب لغة العرب وسنن الله في خلقه .ثم راجعنا بعد ذلك ما كتبناه في مسألة حل الطعام وحرامه في المجلد السادس من المنار ، فرأينا ما كان منه بفهمنا واجتهادنا موافقا لما هنا مع زيادة بيان لحكمة تحريم الميتة ، ونقول من كتب مذاهب الفقهاء المشهورة ، فأحببنا أن نلخص منه ما يأتي إتماما للفائدة حتى لا يبقى للمضلين الجاهلين سلطان على المطلع عليه يضلونه به كما فعل أشياعهم من نحو عشر سنين ، إذ سئل الأستاذ الإمام المفتي عن قوم من أهل الكتاب ( في الترنسفال ) يضربون رأس الثور بالبلطة ثم يذبحونه ولا يسمون بالله كما يذبحون الشاة بدون تسمية ، فأفتى بحل ذبيحتهم هذه ، فقام بعض أصحاب الأهواء يشنع على هذه الفتوى في بعض الجرائد ويعد هذه الذبيحة من الموقوذة ويدعي الإجماع على حرمة الأكل منها ، فكتبنا في مجلد المنار السادس بيان الحق في هذه المسألة وما يتعلق بها ، وجاءتنا رسائل من بعض علماء مصر والعرب فنشرناها تأييدا لما كتبناه في تأييد الفتوى .ثم اجتمع طائفة من علماء المذاهب الأربعة في الأزهر وألفوا رسالة أيدوا بها الفتوى بنصوص مذاهبهم وطبعها الشيخ عبد الحميد حمروش ( من علماء الأزهر وقضاة الشرع لهذا العهد ) .وهاك ما رأينا زيادته الآن:
حكمة تحريم الميتة:
بينا ( في ص 818 و819 م 6 من المنار ) حكمة تحريم ما مات حتف أنفه من ثلاثة وجوه أو ذكرنا له ثلاث حكم .
1- تعظيم شأن القصد في الأمور كلها ليكون الإنسان معتمدا على كسبه وسعيه ، فإن التذكية عبارة عن إزهاق روح الحيوان لأجل أكله ولها صور وكيفيات كثيرة كما علم من تفسيرنا للآية .
2- أن الميت حتف أنفه يغلب أن يكون قد مات لمرض أو أكل نبات سام وبذلك يكون لحمه ضارا .وكذا إذا مات من شدة الضعف وانحلال الطبيعة .
3- استقذار الطباع السليمة له واستخباثه وعد أكله مهانة تنافي عزة النفس وكرامتها .ثم قلنا هنالك ما نصه:( وأما ما هو في معنى الميتة حتف أنفها من المنخنقة والموقوذة الخ فيظهر في علة تحريمه كل ما ذكر إلا حكمة توقي الضرر في الجسم فيظهر فيه بدلها تنفير الناس عن تعريض البهيمة للموت بإحدى هذه الميتات القبيحة في حال من الأحوال ، وأن يعرفوا أن الشرع يأمر بالمحافظة على حياة الحيوان وينهى عن تعذيبه أو تعريضه للتعذيب ، ويعاقب من يتهاون في ذلك بتحريم أكل الحيوان عليه كيلا يتهاون في حفظ حياته .فإن الرعاة يغضبون أحيانا على بعض البهائم فيقتلونه بالضرب ويحرشون بين البهائم فيغرون الكبشين بالتناطح حتى يهلكا أو يكادا .ومن كان يرعى أنعام غيره بالأجرة يقع له مثل هذا أكثر ، ولو كان كل ما هلك بتلك الكميات حلالا لما بعد أن يعتمد الرعاة وأمثالهم من التحوت تعريض البهائم لها ليأكلوها بعذر .ويدل على هذه الحكمة أحاديث صحيحة منها قوله صلى الله عليه وسلم بعد النهي عن الحذف وهو الرمي بالحصا والبندق ( الطين المشوي لذلك ): "إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقا العين "{[682]} رواه أحمد والبخاري ومسلم ، اه .
ثم ذكرنا ( في ص 822 م6 ) حكمة أخرى في ضمن مقالة وعظية لعالم مغربي أيد بها فتوى الأستاذ الإمام قال:وهل عرف أولئك العلماء حكمة الذبح المعتاد وشيوعه بين المسلمين بقطع الحلقوم والمريء مع قيام غيره مقامه في الصيد والدابة الشاردة والسمك والجراد والجنين في بطن أمه ؟ ...فليعلموا أن أكل قتل بحسب الأصل موصل للمقصود ولكن الله لحكمته ورحمته بنا وبالحيوان جعل بيننا قسمة عادلة ومنة عامة فحرم علينا ما قتله الحيوان وما مات في الخلاء بغير قصد منا ليبقى ذلك كله للحيوان يأكله لأنها لأمم أمثالنا .وكأنه تعالى لم يرض أن نأكل ما لم نقصده ولم نفكر فيه فأما المذكي والصيد والسمك والجراد ونحوها فإنها كلها لا تؤخذ إلا بالنصب والتعب اه .
أقول:إنني لما رأيت هذه الحكمة التي لم تكن خطرت في بالي تذكرت أن أراجع كتاب حجة لله البالغة لعلي أجد فيه من الحكمة ما أقتبسه في هذا المقام فرأيته أطال في بيان حكمة محرمات الطعام مراعيا فيها المعتمد في بعض المذاهب ولم يذكر في الميتة والدم المسفوح إلا أنهما نجسان وفي الخنزير إلا أنه مسخ بصورته قوم .وقد أعجبني في هذا الباب قوله:( في اختيار أقرب طريق لإزهاق الروح اتباع داعية الرحمة وهي خلة يرضى بها رب العالمين ويتوقف عليها أكثر المصالح المنزلية والمدنية .قال صلى الله عليه وسلم:( ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة ){[683]} .أقول كانوا يجبون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم وفي ذلك تعذيب ومناقضة لما شرع الله من الذبح فنهى عنه .قال صلى الله عليه وسلم:( من قتل عصفورا فما فوقه بغير حقه سأله الله عز وجل عن قتله ) قيل يا رسول الله وما حقه ؟ قال:( أن يذبحه فيأكله ولا يقطع رأسه فيرمي به ){[684]} .
أقول:هاهنا شيئان متشبهان لا بد من التمييز بينهما أحدهما الذبح للحاجة واتباع إقامة مصلحة النوع الإنساني والثاني السعي في الأرض بإفساده نوع الحيوان واتباع داعية قسوة القلب اه .وهو موافق ومؤيد لما ذكرناه من قبل .
حكمة إباحة قتل الحيوان لأجل أكله
ذهب بعض البراهمة والفلاسفة إلى أن تذكية الحيوان وصيده لأجل أكله قبيح لا ينبغي للعاقل أن يأتيه ولا يحسن أن يعذب غيره من الأحياء لأجل شهوته ، ويترتب على هذا الاعتراض على الشرائع الإلهية التي أباحت أكل الحيوان كالموسوية والعيسوية والمحمدية .ومما يطعن به الناس في أبي العلاء المعري الفيلسوف العربي أنه كان لا يأكل اللحم استقباحا له وأنه كان يعده توحشا ، لا أنه كان يعافه بطبعه ككثير من الناس ، وقد يشعر بهذا ما حكي عنه أنه مرض فوصف له الطبيب فروجا فلما جيء به مطبوخا وضع يده عليه وقال:استضعفوك فوصفوك ، هلا وصفوا شبل الأسد ؟ والجواب عن هذا أن الشرائع الإلهية لو لم تبح للناس أكل الحيوان لكان هذا الاعتراض يرد على نظام الخلقة لأن من سننه أن يأكل بعض الحيوان بعضا في البر والبحر ، فالإنسان أجدر بأن يأكل بعض الحيوان لأن الله فضله على جميع أنواع الحيوان وسخرها له كما سخر له جميع ما في الأرض من الأجسام والقوى ليستعين بذلك على معرفته وعبادته وإظهار آياته في خلقه وما أودع فيها من الحكم والعجائب واللطائف والمحاسن .
وامتناع الناس عن أكل ما يأكلون من الحيوان كالأنعام لا يعصمها من الموت بالمرض أو التردي أو فرس السباع لها ، وربما كانت كل ميتة من هذه الميتات أهون وأخف ألما من التذكية الشرعية التي كتب الله فيها الإحسان ومنتهى العناية بالحيوان ، ونحن نرى الشاة إذا شمت رائحة الذئب أو سمعت عواءه تنحل قواها ، وكذلك شأن الدجاج مع الثعلب ، وسائر الحيوانات غير المفترسة مع السباع المفترسة ، وإنما ألم الذبح لحظة واحدة ، ويقول علماء الحياة إن إحساس الأنعام والدواب بالألم أضعف من إحساس الإنسان به فلا يقاس أحدهما على الآخر ، على أن من الناس من لا يعظم ألمهم من الجرح فربما يقطع عضو الواحد منهم لعلة به ولا يتأوه ، وقد يغمى على غيره من مثل ذلك ، ولا يحتمله الأكثرون إلا إذا خدروا تخديرا لا يجدون معه ألما ولا شعورا .
مذهب الحنفية في ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم
جاء في ( ص 97 من الجزء الثاني من العقود الدرية .في تنقيح الفتاوى الحامدية ) لابن عابدين الشهير صاحب الحاشية الشهيرة على الدر المختار ما نصه:
سئل في ذبيحة العربي الكتابي هل تحل مطلقا أو لا ؟ ( الجواب ) تحل ذبيحة الكتابي لأن من شرطها كون الذابح صاحب ملة التوحيد حقيقة كالمسلم أو دعوى كالكتابي ولأنه مؤمن بكتاب من كتب الله تعالى وتحل مناكحته فصار كالمسلم في ذلك .ولا فرق في كتابي بين أن يكون ذميا يهوديا ، حربيا أو عربيا أو تغلبيا لإطلاق قوله تعالى:{ وطعام أوتوا الكتاب} والمراد بطعامهم مذكاهم ، قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه:قال ابن عباس رضي الله عنهما ( طعامهم ذبائحهم ) ولأن مطلق الطعام غير المذكى يحل من أي كافر كان بالإجماع فوجب تخصيصه بالمذكي .وهذا إذا لم يسمع من الكتابي أنه سمى غير الله كالمسيح والعزير ، وأما لو سمع فلا تحل ذبيحته لقوله تعالى:{ وما أهل لغير الله به} وهو كالمسلم في ذلك .وهل يشترط في اليهودي أن يكون إسرائيليا وفي النصراني أن لا يعتقد أن المسيح إله ؟ مقتضى إطلاق الهداية وغيرها عدم الاشتراط وبه أفتى الجد في الإسرائيلي وشرط في المستصفى لحل مناكحتهم عدم اعتقاد النصراني ذلك ، وكذلك في المبسوط فإنه قال:ويجب أن لا يأكلوا ذبائح أهل الكتاب إن اعتقدوا أن المسيح إله وأن عزيرا إله ولا يتزوجوا نساءهم .لكن في مبسوط شمس الأئمة:وتحل ذبيحة النصراني مطلقا سواء قال ثالث ثلاثة أولا ، ومقتضى إطلاق الآية الجواز كما ذكره التمرتاشي في فتاواه .والأولى أن لا يأكل ذبيحتهم ولا يتزوج منهم إلا لضرورة كما حققه الكمال ابن الهمام ، والله ولي الإنعام ، والحمد لله على دين الإسلام ، والصلاة والسلام محمد سيد الأنام .
قال العلامة قاسم في رسائله: "قال الإمام ومن دان دين اليهود والنصارى من الصابئة والسامرة أكل ذبيحته وحل نساؤه ، وحكي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إليه فيهم أو في أحدهم فكتب مثل ما قلنا ، فإذا كانوا يعترفون باليهودية والنصرانية فقد علمنا أن النصارى فرق فلا يجوز إذا جمعت النصرانية بينهم أن نزعم أن بعضهم تحل ذبيحته ونساؤه وبعضهم يحرم ، إلا بخبر ملزم ، ولا نعلم في هذا خبرا ، فمن جمعته اليهودية والنصرانية فحكمه واحد .اه بحروفه "اه ما في تنقيح الفتاوى الحامدية بحروفه ، وبهذه الفتوى أيد بعض علماء الأزهر الفتوى الترنسفالية للأستاذ الإمام .
حكم ما خنقه أهل الكتاب عند الحنفية:
ذكر الشيخ محمد بيرم الخامس الفقيه الحنفي في كتابه صفوة الاعتبار مبحثا طويلا في ذبائح أهل أوروبة ونقل عن علماء مذهبه أن ذبائح أهل الكتاب حلال مطلقا ، وجاء بتفصيل في أنواع المأكول في أوربة ثم قال ما نصه:
"وأما مسألة الخنق فإن كان لمجرد شك فلا تأثير له كما تقدم ، وإن كان لتحقق فلم أر حكم المسألة مصرحا به عندنا ، وقياسها على تحقق تسمية غير الله أنها محرمة عند الحنفية ، وأما عند من يرى الحل في مسألة التسمية كما هو مذهب جمع عظيم من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين فالقياس عليها يفيد الحلية حيث خصصوا بآية{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} آية{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وآية{ وما أهل لغير الله به} وكذلك تكون مخصصة لآية المنخنقة ويكون حكم الآيتين خاصا بفعل المسلمين والإباحة عامة في طعام أهل الكتاب إذ لا فرق بين ما أهل به لغير الله وما خنق فإذا أبيح الأول فيما يفعله أهل الكتاب كذلك الثاني .
وقد كنت رأيت رسالة لأحد أفاضل المالكية نص فيها على الحل وجلب النصوص من مذهبه بما ينثلج به الصدر سيما إذا كان عمل الخنق عندهم من قبيل الذكاة كما أخبر كثير من علمائهم ، وأن المقصود التوصل إلى قتل الحيوان بأسهل قتلة للتوصل إلى أكله بدون فرق بين طاهر ونجس مستندين في ذلك لقول الإنجيل على زعمهم فلا مرية في الحلية على هذه المذاهب .
فإن قلت كيف يسوغ تقليد الحنفي لغير مذهبه ؟ قلت أما إن كان المقلد من أهل النظر وقلد الحنفي عن ترجيح برهان فهذا ربما يقال إنه لا يسوغ له ذلك ( أي إلا أن يظهر له ترجيح دليل الحل ثانيا ) وأما إن كان من أهل التقليد البحت كما هو في أهل زماننا ، فقد نصوا على أن جميع الأئمة بالنسبة إليه سواء والعامي لا مذهب له وإنما مذهبه مذهب مفتيه ، وقوله:أنا حنفي أو مالكي:كقول الجاهل:أنا نحوي:لا يحصل له منه سوى مجرد الاسم فبأي العلماء اقتدى فهو ناج .على أن الكلام وراء ذلك ، فقد نصوا على الجواز والوقوع بالفعل في تقليد المجتهد لغيره .والكلام مبسوط في ذلك في كثير من كتب الفقه .وقد حرر البحث أبو السعود في شرح الأربعين حديثا النووية وألف في ذلك رسالة عبد الرحيم المكي فليراجعهما من أراد الوقوف على التفصيل .
"فإن قيل:قد ذكرت أن الخنزير محرم وهو طعامهم فلماذا لا يجعل مخصصا بالحلية بهذه الآية أي آية طعامهم وإذا جعلت آية تحريمه محكمة غير منسوخة فكذلك تكون المنخنقة ؟ ولماذا تقيسها على مسألة التسمية ولا تقيسها على مسألة الخنزير وأي مرجع لذلك ؟ فالجواب:أن المأكولات منها ما حرم لعينه ومنها ما حرم لغيره ، فالخنزير وما شاكله من الحيوانات محرمة لعينها ولهذا نبقى على تحريمها في جميع أطوارها وحالاتها .وأما متروك التسمية أو ما أهل به لغير الله والمنخنقة فإن التحريم أتى فيه لعارض وهو ذلك الفعل ، ثم أتى نص آخر عام في طعام أهل الكتاب وأنه حلال فأخرج منه محرم العين ضرورة ، وبالإجماع أيضا .وبقي المحرم لغيره ، وهو مسألتان:إحداهما مسألة التسمية والثانية مسألة المنخنقة فبقيا في محل الشك لتجاذب كل من نصي التحريم والإباحة لهما ، فوجدنا إحداهما وهي مسألة التسمية وقع الخلاف فيها بين المجتهدين من الصحابة وغيرهم ، وذهب جمع عظيم منهم إلى الإباحة .وبقيت مسألة المنخنقة التي يتخذها أهل الكتاب طعاما لهم مسكوتا ، عنها فكان قياسها على مسألة التسمية هو المتعين لاتخاذ العلة .وأما قياسها على مسألة الخنزير فهو قياس مع الفارق فلا يصح ، إذ شرط القياس المساواة .وإنما أطلنا الكلام في هذا المجال لأنه مهم في هذا الزمان وكلام الناس فيه وكثير والله يؤيد الحق وهو يهدي السبيل "اه .
مذهب المالكية في طعام أهل الكتاب
جاء في كتاب الذبائح من ( المدونة ) ما نصه:( قلت:أفتحل لنا ذبائح نساء أهل الكتاب وصبيانهم ؟ قال ما سمعت من مالك فيه شيئا ولكن إذا حل ذبائح رجالهم فلا بأس بذبائح نسائهم وصبيانهم إذا أطلقوا الذبح .قلت أرأيت ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم أيؤكل ؟ قال:قال مالك:أكرهه ولا أحرمه .وتأول مالك فيه{ أو فسقا أهل لغير الله به} [ الأنعام:145] وكان يكرهه من غير أن يحرمه .قلت أرأيت ما ذبحت اليهود من الغنم فأصابوه فاسدا عندهم لا يستحلونه لأجل الرئة وما أشبهها التي يحرمونها في دينهم أيحل أكله للمسلمين ؟ قال كان مالك مرة يجيزه فيما بلغني "اه .والمدونة عند المالكية أصل المذهب فهي كالأم عند الشافعية .
وجاء في كتاب أحكام القرآن للإمام عبد المنعم بن الفرس الخزرجي الأندلسي المتوفى سنة 599 ما نصه:
{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} اتفق على أن ذبائحهم داخلة تحت عموم قوله تعالى{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} فلا خلاف في أنها حلال لنا وأما سائر أطعمتهم مما يمكن استعمال النجاسات فيه كالخمر والخنزير فاختلف فيه فيذهب الأكثرون إلى أن ذلك من أطعمتهم ...وذهب ابن عباس إلى أن الطعام الذي أحل لنا ذبائحهم .فأما ما خيف منهم استعمال النجاسة فيه فيجب اجتنابه .وإذا قلنا إن الطعام يتناول ذبائحهم باتفاق ، فهل يحمل لفظه على عمومه أم لا ؟ فالأكثر إلى أن حمل لفظ الطعام على عمومه في كل ما ذبحوه مما أحل الله لهم أو حرم الله عليهم أو حرموه على أنفسهم .وإلى نحو هذا ذهب ابن وهب وابن عبد الحكم .وذهب قوم إلى أن المراد من ذبائحهم ما أحل الله خاصة وأما ما حرم الله عليهم بأي وجه كان فلا يجوز لنا ، وهذا هو المشهور من مذهب ابن القاسم .وذهب قوم إلى أن المراد بلفظ الطعام ذبائحهم جميعا إلا ما حرم الله عليهم خاصة لا ما حرموه على أنفسهم ، وإلى نحو هذا ذهب أشهب .والذين قالوا إن الله يجوز لنا أكل ما لا يجوز لهم أكله اختلفوا:هل ذلك على جهة المنع أو كراهة ؟ وهذا الخلاف كله موجود في المذهب .واختلف أيضا فيما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم أو سموا عليه اسم المسيح:هل هو داخل تحت الإباحة أم لا ؟ فذهب أشهب إلى أن الآية متضمنة تحليله وأن أكله جائز وكرهه مالك رحمه الله وتأول قوله تعالى:{ أو فسقا أهل لغير الله به} على ذلك ...
{ الذين أتوا الكتاب} اختلف العلماء في الذين أوتوا الكتاب من اليهود النصارى من هم ؟ .وقد اختلف في المجوس والصائبة والسامرة هل هم ممن أوتي كتابا أم لا ؟ وعلى هذا يختلف في ذبائحهم ومناكحتهم اه ملخصا .
وفي كتاب أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي في تفسير هذه الآية أيضا ما نصه:( هذا دليل قاطع على أن الصيد ( وطعام الذين أوتوا الكتاب ) من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال المطلق ، وإنما كرره الله تعالى ليرفع به الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة التي توجب الاعتراضات وتخرج إلى تطويل القول .ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاما – وهي المسألة الثامنة- فقلت تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ، ولكن الله أباح لنا طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه .ولقد قال علماؤنا إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا فيحل لنا وطؤهن فكيف لا نأكل ذبائحهم والأكل دون الوطء في الحل والحرمة ؟ ) اه .وفيما قاله القاضي نوع من التقييد والتشديد إذ اعتبر في طعامهم ما يأكله أحبارهم ورهبانهم ، وهذا ما اعتمده الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر في فتواه الترنسفالية .
وقد أفتى المهدي الوزاني من علماء فاس بمثل ما أفتى به مفتي مصر ولما علم بمشاغبة أهل الأهواء في فتوى مفتي مصر كتب رسالة في تأييد الفتوى بنصوص كتب المالكية المعتبرة نشرناها في آخر جزء من مجلد المنار السادس ومنها قوله:
( الدليل على صحة ما قاله الإمام ابن العربي ما ذكره العلماء فيما ذبحه أهل الكتاب للصنم فإنه حرم مع المنخنقة وما عطف عليها ، وقيدوه بما لم يأكلوه وإلا كان حلالا لنا .قال الشيخ بناني على قول المختصر ( وذبح لصنم ) ما نصه:الظاهر أن المراد بالصنم كل ما عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى بحيث يشمل الصنم والصليب وغيرهما ، وأن هذا شرط في أكل ذبيحة الكتابي كما في التتائي والزرقاني ، وهو الذي ذكره أبو الحسن رحمه الله في شرح المدونة وصرح به ابن رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح ونصه:كره مالك رحمه الله ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم لأنه رآه مضاهيا لقوله عز وجل:{ أو فسقا أهل لغير الله به} [ الأنعام:135] ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة له وإنما رآها مضاهية له ، لأن الآية عنده إنما معناها فيما ذبحوا لآلهتهم مما لا يأكلون ، قال:وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك ) اه .
وقال في سماع عبد الملك عن أشهب:وسألته عما ذبح للكنائس قال:لا بأس بأكله .ابن رشد:كره مالك في المدونة أكل ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم ، ووجه قول أشهب أن ما ذبحوه لكنائسهم لما كانوا يأكلونه وجب أن تكون حلالا لنا لأن الله تبارك وتعالى يقول:{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} وإنما تأول قول الله عز وجل:{ أو فسقا أهل لغير الله به} فيما ذبحوا لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعا .اه .
( فتبين أن ذبح أهل الكتاب إذا قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل لأنهم لا يأكلونه ، فهو ليس طعامهم ولم يقصدوا بالذكاة إباحته وهذا هو المراد هنا .وأما ما يأتي من الكراهة في ذبح الصليب فالمراد به ما ذبحوه لأنفسهم لكن سموا عليه اسم آلهتهم ، فهذا يؤكل لأنه من طعامهم:هذا الغرض من كلام بناني وسلمه الرهوني بسكوته عنه .فهذا شاهد لابن العربي قطعا لأنه علق جواز الأكل على كونه من طعامهم ، والمنع منه على ضد ذلك ، وأيضا ليس كل ما يحرم في ذكاتنا يحرم أكله في ذكاتهم كمتروك التذكية عمدا فإنها لا تؤكل بذبيحتنا وتؤكل بذبيحتهم حسبما تقدم ، فإذا المدار على كونها من طعامهم لا غير والله أعلم ) اه المراد مما كتبه المفتي الوزاني .
وقد أطال علماء الأزهر في ( إرشاد الأمة الإسلامية ، إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية ) القول في مذهب المالكية في طعام أهل الكتاب وفصلوه في بضع فصول ، الفصل السابع منها في بيان أن ما أفتى به ابن العربي ( أي من حل ما خنقه أهل الكتاب بقصد التذكية لأكله ) هو مذهب المالكية قاطبة ، والفصل الثامن في رد الرهوني برأيه عليه والتاسع في تفنيد كلام الرهوني وبيان بطلانه ، قالوا في أول الفصل السابع ما نصه:
( اعلم أنه أقر ابنَ العربي على مات أفتى به الوزانيُّ وصاحبُ المعيار وأحمد بابا وابن عبد السلام وابن عرفة وغيرُهم من محققي المالكية كالزياتي وقال:وكفى بهم حجة وإن رده الرهوني بالأقيسة .وما توهمه ابن عبد السلام من التناقض بين كلامي ابن العربي في أحكام القرآن من قوله:( ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس ميتة حرام – وقوله-:أفتيت بأن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن ذكاة عندنا لأن الله أباح طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فهو حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه ) دفعه ابن عرفة بما حاصله أن ما يرونه مذكى عندهم حل لنا أكله وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة ، وما لا يرونه مذكى لا يحل ، ويرجع إلى قصد تذكيته لتحليله وعدمه كما يعلم ذلك من التتائي على المختصر عند قول المصنف:أو مجوسا تنصر وذبح لنفسه الخ .ولم يفهم من عبارة أحد من هؤلاء المحققين أن ما أفتى به ابن العربي مذهب له وحده ، بل كل واحد وافقه على أنه مذهب المالكية ، ( بيان ذلك ):أن مبني مذهب المالكية جميعا العمل بعموم قوله تعالى:{ وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم} فكل ما كان من طعامهم فهو حل لنا سواء كان يحل لنا باعتبار شريعتنا أو لا ، فالمعتبر في حل طعامهم ما هو حلال لهم في شريعتهم ولا يعتبر ذلك بشريعتنا .ويدل لذلك النصوص والتعاليل الآتية .وهو ما جرى عليه مالك وأصحابه فيما ذبحوه للصليب أو لعيسى أو لكنائسهم .
( قال الزياتي في شرح القصيدة:الرابع ما ذبح للصليب أو لعيسى أو لكنائسهم يكره أكله .بهرام عن ابن القاسم:وما ذبحوه وسموا عليه باسم المسيح فهو بمنزلة ما ذبحوه لكنائسهم وكذلك ما ذبحوه للصليب .وقال سحنون وابن لبابة:هو حرام لأنه مما أهل لغير الله به .وذهب ابن وهب للجواز من غير كراهة .اه .
( وفي القلشاني:أن أشهب يرى أيضا الكراهة فيما ذبح للمسيح كابن القاسم وقال يباح أكله وقد أباح الله ذبائحهم لنا وقد علم ما يفعلونه .وذكر القلشاني أيضا فيما ذبحوه لكنائسهم ثلاثة أقوال:التحريم والكراهة والإباحة ، وأن مذهب المدونة الكراهة .ونقل المواق عن مالك كراهة ما ذبح لجبريل عليه السلام اه .وفي منح الجليل عن الرماصي:أجاز مالك رضي الله عنه في المدونة أكل ما ذكر اسم المسيح مع الكراهة والإباحة لابن حارث عن رواية ابن القاسم مع رواية أشهب وعنه أباح الله لنا ذبائحهم وعلم ما يفعلونه اه وسيقول المصنف فيما يكره:وذبح لصليب أو عيسى ، وليس تحريم المذبوح للصنم لكونه ذكر عليه اسمه بل لكونه لم يقصد ذكاته ، وإلا فلا فرق بينه وبين الصليب .قال التونسي:وقال عطية في قوله تعالى:{ ولا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه} ذبائح أهل الكتاب عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه من حيث لهم دين وشرع .وقال قوم:نسخ في هذه الآية حل ذبائح أهل الكتاب ، قاله عكرمة والحسن بن أبي الحسن ، وقال في قوله تعالى:{ وما أهل لغير الله به} قال ابن عباس وغيره:فالمراد ما ذبح للأصنام والأوثان ، و( أهل ) معناه صيح ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة وغلب في استعماله حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم .
ثم قال:والحاصل أن ذكر اسم غير الله لا يوجب التحريم عند مالك وفيه عن البناني:وصرح ابن رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح ما نصه:كره مالك ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم لأنه رآه مضاهيا لقوله تعالى:{ أو فسقا أهل لغير الله} ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة له وإنما رآها مضاهية ل ،ه لأنها عنده إنما معناها فيما ذبحوه لألهتهم مما لا يأكلونه ، قال:وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك من كتاب الضحايا ، وقال في سماع عبد الملك من أشهب وسألته عما ذبح للكنائس قال لا بأس بأكله .
ابن رشد:كره مالك في المدونة أكل ما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم ووجه قول أشهب أن ما ذبحوه لكنائسهم لما كانوا يأكلونه وجب أن يكون حلالا لأن الله قال{ وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم} ، وإنما تأول قوله عز وجل:{ أو فسقا أهل لغير الله به} فيما ذبحوه لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعا اه .فتبين أن ذبح أهل الكتاب إن قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل لأنهم لا يأكلونه فهو ليس من طعامهم ولم يقصدوا بذكاته إباحته ، وهذا هو المراد هنا وأما ما يأتي من المكروه في:( وذبح لصليب الخ ) فالمراد به ما ذبحوه لأنفسهم وسموا عليه باسم آلهتهم فهذا يؤكل لأنه من طعامهم .اه .
وذكر العلامة التتائي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي أمامة جواز أكل ما ذبح للصنم اه .وأنت لا يذهب عليك أن ما ذبح للصنم مما أهل به لغير الله وإنما جوزه هؤلاء الصحابة الأجلاء لكونه من طعام أهل الكتاب ، تأمله .وقال العلامة التتائي عند قول المصنف ( وذبح لصليب أو لعيسى ) أي يكره أكل مذبوح لأجله .محمد وابن حبيب:هو مما أهل به لغير الله وما ترك مالك العزيمة بتحريمه فيما ظننا إلا للآية الأخرى{ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} فأحل الله تعالى لنا طعامهم وهو يعلم ما يفعلونه وترك ذلك أفضل .وقال محمد أيضا كره مالك ما ذبحوه للكنائس أو لعيسى أو للصليب أو ما مضى من أحبارهم أو لجبريل أو لأعيادهم من غير تحريم اه ووجه الكراهة قصدهم به تعظيم شركهم به قصد الذكاة اه منه بلفظه .وفي بهرام:وذهب ابن وهب إلى جواز أكلى ما ذبح للصليب أو غيره من غير كراهة نظرا إلى أنه من طعامهم اه .
وقال في منح الجليل عند ذكر كراهة شحم اليهودي عن البناني ثلاثة أقوال:في شحم اليهود الإجازة والكراهة والمنع ، وأنها ترجع إلى الإجازة والمنع لأن الكراهة من قبيل الإجازة .الأصل في هذا اختلافهم في تأويل قوله تعالى:{ وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم} هل المراد بذلك ذبائحهم أو ما يأكلون ؟ فمن ذهب إلى أن المراد به ذبائحهم أجاز أكل شحومهم لأنها من ذبائحهم ومحال أن تقع الذكاة على بعض الشاة دون بعض ، ومن قال المراد ما يأكلون لم يجز أكل شحومهم لأنها محرمة عليهم في التوراة على ما أخبر به القرآن فليست مما يأكلون .
وفي منح الجليل أيضا بعد الكلام على التسمية ما نصه:
قال في البيان والتبيين ليست التسمية شرطا في صحة الذكاة لأن قوله تعالى:{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} معناه لا تأكلوا الميتة التي لم يقصد إلى ذكاتها لأنها فسق ، ومعنى قوله تعالى:{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} كلوا مما قصدتم إلى ذكاته فكنى عن التذكية بالتسمية كما كنى عن رمي الجمار بذكر اسمه تعالى حيث قال:{ واذكروا الله في أيام معدودات} [ البقرة:103] اه المقصود منه .
وقال في كبير الخرشي:ودخل في قول المؤلف ( يناكح ) أي يحل لنا وطء نسائه في الجملة – المسلم والكتابي معاهدا أو حربيا حرا أو عبدا ذكرا أو أنثى ، ولا فرق بين الكتابي الآن ومن تقدم ، خلافا للطرطوشي في اختصاصه بمن تقدم ، فإن هؤلاء قد بدلوا فلا نأمن أن تكون الذكاة مما بدلوا .ورد بأن ذلك لا يعلم إلا منهم فهم مصدقون فيه اه ومثله في التتائي بلا فرق .
وقال في شرح اللمع عند قول المصنف:وأما من يذكي فمن اجتمعت فيه أربعة شروط:أن يكون مسلما أو كتابيا الخ:واعلم أن المؤلف أطلق الكلام على صحة ذكاة الكتابي ولا بد من التفضيل في ذلك ليصير كلامه موافقا للمشهور من المذهب ، وتلخيص القول في ذلك أن الكافر إن كان غير كتابي لم تصح ذكاته وإن كان كتابيا كاليهودي والنصراني سواء كان بالغا أو مميزا ذكرا أو أنثى ذميا كان أو حربيا فإن كان ما ذكاه مما يستحل أكله فذكاته له صحيحة ويجوز لنا الأكل منها وإن كان مالك قد كره الشراء من ذبائحهم .والأصل في ذلك أن الله تعالى قد أباح لنا أكل طعامهم ومن جملة طعامهم ما يذكونه ، وإن كان ما ذكاه مما لا يستحله بل مما يقول إنه حرام عليه فإن ثبت تحريمه عليه بنص شريعتنا كذي الظفر في قوله تعالى:{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [ الأنعام:146] فالمشهور عدم جواز أكله وقيل يجوز وقيل يكره وإن لم يثبت تحريمه عليهم بشرعنا بل لم يعرف ذلك إلا من قولهم كالتي يسمونها بالطريقة بالطاء المهملة ففي جواز أكلنا منه وكراهته قولان وهما لمالك في المدونة .قال اللخمي:وثبت على الكراهة ولم يحرمه .واقتصر الشيخ خليل في مختصره على القول بالكراهة ووجهه ابن بشير باحتمال صدق قولهم .وهذا كله إذا كان الكتابي لا يستبيح أكل الميتة وأما إن كان ممن يستحل أكلها فقال ابن البشير فإن غاب الكتابي على ذبيحته فإن علمنا أنهم يستحلون الميتة كبعض النصارى أو شككنا في ذلك لن نأكل ما غابوا عليه وإن علمنا أنهم يذكون أكلناه اه .وأما ما يذبحه الكتابي لعيده أو لعيسى أو للكنيسة أو لجبريل أو نحو ذلك فقد كرهه مالك مخافة أن يكون داخلا تحت قوله تعالى:{ وما أهل لغير الله به} ولم يحرمه لعموم قوله تعالى:{ وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم} وهذا من طعامهم .
قال ابن يونس:واستخفه غير واحد من الصحابة والتابعين وقالوا قد أحل لنا ذلك وهو عالم بما يفعلونه اه وأما ما ذبحوه للأصنام فلا يجوز أكله .قال ابن عبد السلام باتفاق لأنه مما أهل به لغير الله .قال اللخمي:في تبصرته فيما ذبحه أهل الكتاب لعيدهم وكنائسهم وصلبانهم وما أشبه ذلك الصحيح أنه حلال ، والمراد بما أهل لغير الله به ما ذبح على النصب والأصنام وهي ذبائح المشركين .قال أصبغ في ثمانية أبي زيد:وما ذبح على النصب هي الأصنام التي كانوا يعبدون في الجاهلية ، قال:أهل الكتاب ليسوا أصحاب أصنام .وفي البخاري قال زيد بن عمرو بن نفيل إنا لا نأكل مما تذبحون لأنصابكم يعني الأصنام وأما ما ذبحه أهل الكتاب فلا يراعى ذلك فيهم ، وقد جعل الله سبحانه لهم حرمة فأجاز مناكحتهم وذبائحهم لتعلقهم بشيء من الحق وهو الكتاب الذي أنزل عليهم وإن كانوا كافرين ، ولو كان يحرم ما ذبح باسم المسيح لم يجز أن يؤكل شيء من ذبائحهم إلا أن يسأل هل سمى عليه المسيح أو ذبح للكنيسة ، بل لا يجوز وإن أخبر أنه لم يسم المسيح لأنه غير صادق ، وإذا لم يجب ذلك حلت ذبائحهم كيف كانت اه .
فانظر كيف تضافرت كل هذه النصوص كباقي نصوص جميع المالكية على إناطة الحل والحرمة بكونه حلالا عندهم أي يأكلونه وعدمه .وهذا بعينه هو ما قصد إليه ابن العربي والحفار وقال:أهل المذهب كلهم يقولون ويفتون بحل طعام أهل الكتاب .ومن جهة أخرى تعلم أن الذبح للصليب لم يكن من الشريعة المسيحية الحقة لأنه حادث بعدها ، إذ منشؤه حادثة الصلب المشهورة .فكل هذا يفيد أن المعتبر عند المالكية ما هو حلال عند أهل الكتاب في شرائعهم التي هم عليها ، ومنه يعلم أيضا ما هو المراد من الميتة في قوله تعالى:{ حرمت عليكم الميتة} وأنها التي لم يقصد ذكاتها كما يعلم أنه يجب تقييد المنخنقة وما معها بما لم تقصد ذكاته ، ويكون هذا في المنخنقة وما معها بدليل ( إلا ما ذكيتم ) كما سبق ، ومنه يتضح أن المراد بالميتة في قولهم ( إن كان الكتابي يأكل الميتة فلا تأكل ما غاب الخ ) أنها ما لم يقصد ذكاتها لأن القصد إلى الذكاة لابد منه من مسلم أو كتابي حتى لو قطع رقبة الحيوان بقصد تجريب السيف أو اللعب لا يحل كما تقدم ومنه يعلم أن الميتة المذكورة بالنسبة للكتابي هي الميتة عنده وهي التي لم يقصد ذكاتها لا الميتة عندنا ويتبين منه أيضا أن الشروط المذكورة للفقهاء في الذبائح والذكاة إنما هي بيان ما يلزم في الإسلام بالنسبة للمسلم لا لغيره .اه .
مذهب الشافعي في طعام أهل الكتاب
قال الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب الصيد والذبائح من الأم ما نصه:
1- أحل الله طعام أهل الكتاب وكان طعامهم عند بعض من حفظت عنه من أهل التفسير ذبائحهم ، وكانت الآثار تدل على إحلال ذبائحهم ، فإن كانت ذبائحهم يسمونها لله تعالى فهي حلال ، وإن كان لهم ذبح آخر يسمون عليه غير اسم الله مثل اسم المسيح أو يذبحونه باسم دون الله تعالى لم يحل هذا من ذبائحهم ، ولا أثبت أن ذبائحهم هكذا .فإن قال قائل كيف زعمت أن ذبائحهم صنفان وقد أبيحت مطلقة ؟ قيل قد يباح الشيء مطلقا وإنما يراد بعضه دون بعض ، فإذا زعم زاعم أن المسلم إذا نسي اسم الله أكلت ذبيحته وإن تركه استخفافا لم تؤكل ذبيحته وهو لا يدعه للشرك كان من يدعه على الشرك أولى أن تترك ذبيحته – وقد أحل الله عز وجل لحوم البدن ( الإبل ) مطلقة فقال:( فإذا وجبت ( أي سقطت ) جنوبها فكلوا منها ) ووجدنا بعض المسلمين يذهب إلى أنه لا يؤكل من البدنة التي هي نذر ولا جزاء صيد ولا فدية ، فلما احتملت هذه الآية ذهبنا إليه وتركنا الجملة لا أنها خلاف للقرآن ولكنها محتملة .ومعقول أن من وجب عليه شيء في ماله لم يكن يأخذ منه شيئا لأنا إذا جعلنا له أن يأخذ منه شيئا فلم نجعل عليه الكل إنما جعلنا عليه البعض الذي أعطى فهكذا ذبائح أهل الكتاب بالدلالة على شبيه ما قلناه ) اه بحروفه ( ص 196 ج 2 من الأم ) .
أقول:إنه رحمه الله تعالى حرم ما ذكروا اسم غير الله عليه بأقيسة على مسائل خلافية جعلها نظيرا للمسألة وقيد بها إطلاق القرآن ، ومخالفوه في ذلك كمالك وغيره لا يجيزون تخصيص الآية بمثل هذه الأقيسة التي غاية ما تدل عليه أن تخصيص القرآن جائز بالدليل ، ولهم أن يقولوا لنا لا نسلم أن المسلم الذي يترك التسمية تهاونا واستخفافا لا تحل ذبيحته وإذا سلمناه جدلا نمنع قياس الكتابي عليه فيما ذكر ، ولا محل هنا لبيان المنع بالتفضيل في هذا القياس وفيما بعده وهو أبعد منه .والظاهر ما تقدم من نصوص المالكية من أن ما ذبحوه لغير الله إن كانوا لا يأكلونه فهو غير حل للمسلم وإن كانوا يأكلونه فهو من طعامهم الذي أطلق الله تعالى حله وهو يعلم ما يقولون وما يفعلون ، وهذا القول يظهر لنا نكتة التعبير بالطعام دون المذبوح أو المذكى لأن من المذكى ما هو عبادة محضة لا يذكونه لأجل أكله .
2- ذهب الشافعي إلى أن ذبائح نصارى العرب لا تؤكل ، واحتج بأثر رواه عن عمر ( رض ) قال ( ما نصارى العرب بأهل كتاب وما تحل لنا ذبائحهم وما أنا بتاركهم حتى يسلموا أو أضرب أعناقهم ) وبقول علي المشهور في بني تغلب .فأما أثر علي كرم الله وجهه – وقد تقدم – فهو حجة على الشافعي لا له لأنه خاص ببعض العرب مصرح فيه بأنهم ليسوا نصارى .وأما أثر عمر ( رض ) فرواه في الأم عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وقد ضعفه الجمهور وصرح بعضهم بكذبه وممن طعن فيه مالك وأحمد ، ومما قيل فيه إنه جمع أصول البدع فكان قدريا جهميا معتزليا رافضيا ، وقد سئل الربيع حين نقل عن الشافعي أنه كان قدريا:ما حمل الشافعي على أن روى عنه ؟ فأجاب بأنه كان يبرئه من الكذب ويرى أنه ثقة في الحديث .أي والعبرة في الحديث بالصدق لا بالمذهب .
وقال ابن حبان بعد أن وصفه بالبدعة بالكذب في الحديث:وأما الشافعي فإنه كان يجالس إبراهيم في حداثته ويحفظ عنه فلما دخل مصر في آخر عمره وأخذ يصنف الكتب احتاج إلى الأخبار ولم تكن كتبه معه ، فأكثر ما أودع الكتب من حفظه وربما كنى عن اسمه .وقال إسحاق بن راهويه:ما رأيت أحدا يحتج بإبراهيم بن أبي يحيى مثل الشافعي ، قلت للشافعي:وفي الدنيا أحد يحتج بإبراهيم بن أبي يحيى ؟ اه ملخصا من تهذيب التهذيب .ومما يدل على عدم صحة الأثر عدم العمل به ، على أنه رأي صحابي خالفه فيه الجمهور فلا يحتج به وإن صح .
3- قال الشافعي في ( باب الذبيحة وفيه من يجوز ذبحه ) من الأم ( ص 205 و206 ج 2 ) ( وذبح كل من أطاق الذبح من امرأة حائض وصبي من المسلمين أحب إلي من ذبح اليهودي والنصراني ، وكلٌّ حلال الذبيحة غير أني أحب للمرء أن يتولى ذبح نسكه ( أي كالأضحية والهدي ) فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من أهله فاطمة أو غيرها ( احضري ذبح نسيكتك فإنه يغفر لك عند أول قطرة منها ) ( قال الشافعي ) وإن ذبَحَ النسيكةَ غيرُ مالكها أجزأت لأن النبي نحر بعض هديه ونحر بعضه غيره ، وأهدى هديا فإنما نحره من أهداه معه ، غير أني أكره أن يذبح شيئا من النسائك مشرك لأن يكون ما تقرب به إلى الله على أيدي المسلمين ، فإن ذبحها مشرك تحل ذبيحته أجزأت مع كراهتي لما وصفت .
( ونساء أهل الكتاب إذا أطقن الذبح كرجالهم ، وما ذبح اليهود والنصارى لأنفسهم مما يحل للمسلمين أكله من الصيد أو بهيمة الأنعام وكانوا يحرمون منه شحما أو حوايا ( أي ما يحوي الطعام كالأمعاء ) أو ما اختلط بعظم أو غيره وإن كانوا يحرمونه فلا بأس على المسلمين في أكله ، لأن الله عز وجل إذا أحل طعامهم فكان ذلك عند أهل التفسير ذبائحهم فكل ما ذبحوا لنا ففيه شيء مما يحرمون فلو كان يحرم علينا إذا ذبحوه لأنفسهم من أصل دينهمبتحريمهم ، لحرم علينا إذا ذبحوه لنا ، ولو كان يحرم علينا بأنه ليس من طعامهم وإنما أحل لنا طعامهم ، وكان ذلك على ما يستحلون ، كانوا قد يستحلون محرما علينا يعدونه لهم طعاما ، فكان يلزمنا لو ذهبنا هذا المذهب أن نأكله لأنه من طعامهم الحلال لهم عندهم ، ولكن ليس هذا معنى الآية ، معناها ما وصفنا والله أعلم ) .
هذا نص الشافعي ، فمذهبه أن المراد بطعامهم في الآية ذبائحهم خاصة لا عموم الطعام ، فما ذبحوه مما هو حلال لنا كذبائحنا لا فرق بين ما حرام عليهم منه وما حل لهم ، وما حرم علينا لا يحل إذا كان من طعامهم ، وهو مخالف في هذا للمذاهب الأخرى التي أخذت بعموم لفظ الآية وعدتها كالاستثناء مما حرم علينا ، إلا الميتة ولحم الخنزير فإنهما محرمان لذاتها لا لمعنى يتعلق بالتذكية أو بما يذكر عليها ، وقد تقدم ذلك .وقد شرح كون ما أحل لنا مما حرم عليهم لا يحرم من ذبائحهم في موضع آخر ( ص 209 و210 منه ) وبين هنا أنه يجب على كل عاقل بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبعه في أصول شرعه وفروعه وحلاله وحرامه ، فما كان حراما عليهم صار حلا لهم بشرعه ، وحلا لنا بالأولى .
مذهب الشافعي في نكاح أهل الكتاب
قال الشافعي ( رحمه الله ):وأهل الكتاب الذين يحل نكاح حرائرهم اليهود والنصارى دون المجوس ، والصابئون والسامرة من اليهود والنصارى إلا أن يعلم أنهم يخالفونهم في أصل ما يحلون من الكتاب ويحرمون ، فيحرمون كالمجوس ، وإن كانوا يجامعونهم ( أي يوافقونهم ) عليه ويتأولون فيختلفون فلا يحرمون ، فإذا نكحها فهي كالمسلمة فيما لها وعليها إلا أنهما لا يتوارثان ) اه من مختصر المزني ( ص 282 ج 3 على هامش الأم ) وظاهر العبارة أن المجوس عنده من أهل الكتاب إلا في نكاحهم وذبائحهم .
مذهب أحمد وأصحابه في طعام أهل الكتاب والتسمية على الذبيحة
قال الشيخ الموفق عبد الله بن قدامة في ( المقنع – ص 531 ج 2 ) ما نصه:
( يشترط للذكاة شروط أربعة:أحدهما أهلية الذابح وهو أن يكون عاقلا مسلما أو كتابيا فتباح ذبيحته ذكرا كان أو أنثى ، وعنه لا تباح ذبيحة نصارى بني تغلب ولا من أحد أبويه غير الكتابي .
وذكر في حاشيته أن الصحيح من المذهب إباحة ذبيحة بني تغلب ، قال ( وأما من أحد أبويه غير كتابي فقدم المصنف أنها تباح ، وبه قال مالك وأبو ثور واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم ، والثانية:لا تباح ، وهو المذهب وبه قال الشافعي لأنه وجد ما يقتضي الإباحة والتحريم فغلب التحريم ، كما لو جرحه ( أي الصيد ) مسلم ومجوسي اه .أقول للشافعي قول آخر هو أن العبرة بالأب ، وكان اللائق بقول الشافعية إن الولد يتبع أشرف الأبوين في الدين أن يجعلوا ذبح الصغير كذبح أشرف والديه وأما البالغ فلا وجه للبحث عن أبويه ، فإنه إذا كان كتابيا كان داخلا في عموم الآية .
ثم قال ( في ص 537 منه ) ( وإذا ذبح الكتابي ما يحرم عليه كذي الظفر ( أي عند اليهود ) لم يحرم علينا وإن ذبح حيوانا غيره لم تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم وهو شحم الثرب ( أي الكرش ) والكليتين في ظاهر كلام أحمد رحمه الله .واختاره ابن حامد وحكاه عن الخرقي في كلام مفرد .واختار أبو الحسن التميمي والقاضي تحريمه .وإن ذبح لعيده أو ليتقرب به إلى شيء ما يعظمونه لم يحرم ، نَصَّ عليه ) اه أي نص عليه الإمام أحمد وهو المذهب وإن روي عنه التحريم وهو موافق فيه لمذهب مالك رحمهم الله تعالى .وقال ( في ص 535 منه ):( الرابع:( أي من شروط التذكية ) أن يذكر اسم الله عند الذبح وهو أن يقول بسم الله لا يقوم مقامها غيرها إلا الأخرس فإنه يومئ إلى السماء .فإن ترك التسمية عمدا لم تبح وإن تركها ساهيا أبيحت .وعنه تباح في الحالين وعنه لا تباح فيهما ) .
قال في حاشيته:( قوله:فإن ترك التسمية عمدا الخ هذا هو المذهب فيهما وذكره ابن جرير إجماعا في سقوطها سهوا وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق .وممن أباح ما نسيت التسمية عليه عطاء وطاووس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد ، وعن أحمد تباح في الحالين وبه قال الشافعي واختاره أبو بكر لحديث البراء مرفوعا ( المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم ) وحديث أبي هريرة أنه سئل فقيل:أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله ؟ فقال:اسم الله في قلب كل مسلم .رواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي وضعفه .ولنا ما روى الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد مرفوعا ( ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم ما لم يتعمد ) رواه سعيد وعبد بن حميد لكن الأحوص ضعيف ، وعن أحمد لا تباح وإن لم يتعمد لقوله تعالى:{ ولا تأكلوا مما يذكر اسم الله عليه} وجوابه أنها محمولة على ما إذا ترك اسم التسمية عمدا بدليل قوله:{ وإنه لفسق} والأكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق لقوله عليه السلام ( عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ){[685]}اه .
أقول:من عجائب انتصار الإنسان لما يختاره جعل الفسق هنا لمعنى ترك التسمية عمدا ، والظاهر فيه ما قاله الشافعية من أنه ما أهل لغير الله به أخذا من قوله تعالى:{ أو فسقا أهل لغير الله به} وقد تقدم .وفي الباب من كتاب بلوغ المرام للحافظ ابن حجر ما نصه:( وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( المسلم يكفيه اسمه فإن نسي أن يسمي الله حين يذبح فليسم ثم يأكل ) أخرجه الدارقطني وفيه راو في حفظه ضعف وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان وهو صدوق ضعيف الحفظ .
وأخرجه عبد الرزاق بإسناده الصحيح إلى ابن عباس موقوفا عليه وله شاهد عند أبي داود في مراسيله بلفظ ( ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله عليها أم يذكر ) ورجاله موثوقون ) اه .وتقدم حديث عائشة عند البخاري قالت إن قوما يأتون باللحم لا ندري اذكروا اسم الله عليه أم لا فقال صلى الله عليه وسلم ( سموا الله عليه أنتم وكلوه ) اه .
وقد جعل علماء الأزهر الفصل الأول من كتاب ( إرشاد الأمة الإسلامية ) الذي تقدم ذكره في بيان مذهب الحنابلة في الذبيحة التي أفتى بها مفتي مصر قالوا:( ذهب الحنابلة إلى أن المعتبر في حل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع أن تذكى وفيها حياة وإن قلَّت كالمريضة ، وهو قول علي وابن عباس والحسن وقتادة والسيدين الباقر والصادق وإبراهيم وطاووس والضحاك وابن زيد .
والتسمية عندهم ليست بشرط فيحل متروك التسمية عمدا أو سهوا من مسلم أو كتابي على رواية .وفي رواية عن أحمد تشترط من مسلم لا من كتابي وعنه عكسها .ثم أيدوا هذه الخلاصة بنقل من كتاب ( دقائق أولي النهي ، على متن المنتهى ) ومن غيره .
صفوة الخلاف بين الفقهاء والمختار منه في طعام أهل الكتاب
من تأمل ما نقلناه من كتب المذاهب الأربعة المشهورة وما تخلله وسبقه من كلام غيرهم من الأئمة السلف يظهر له أن المتفق عليه أنه يحرم علينا من طعام أهل الكتاب ما حرم علينا في ديننا لذاته وهو الميتة ولحم الخنزير وكذا الدم المسفوح قطعا وإن لم يذكر فيما تقدم من النقل ، ولا نعلم أن أحدا منهم يأكله أو يشربه وكذلك الميتة كلهم يحرمونها .ولحم الخنزير محرم بنص التوراة إلى اليوم ، وقد استباحه النصارى بإباحة مقدسهم بولس .وقد اختلف الفقهاء فيما عدا ذلك كما علمت فكل ما أكلناه مما عدا ذلك من طعامهم نكون موافقين فيه لقول بعض فقهائنا الذين شدد بعضهم وخفف بعض في هذه المسائل ، وأشد الفقهاء تشديدا في ذلك وفي أكثر الأحكام الشافعية .ومن تأمل أدلة الجميع رأى أن أظهرها قول الذين أخذوا بعموم قوله تعالى:{ وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم} ولم يخصصوه بذبائحهم فضلا عن تخصيصه بحبوبهم كالشيعة ولا يشترط في حل طعامهم أن يأكل منه أحبارهم ورهبانهم كما قال ابن العربي واختاره شيخنا الأستاذ الإمام مفتي مصر في الفتوى الترنسفالية فهو تشديد لا مستند له – في غير ما أهل لغير الله – إلا الثقة بأن يكون ما يأكلونه غير محرم عليهم في كتبهم ، وقد نسخت شريعتنا كتبهم كما قال الشافعي وغيره فلا محرم عليهم فيها وقد قال الله تعالى في صفات خاتم النبيين{ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [ الأعراف:157] ولا يشترط أيضا أن يكون طعامهم موافقا لشريعتنا سواء كانوا مخاطبين بفروعها قبل الإيمان كما يقول الشافعي أو غير مخاطبين بها إلا بعد الإيمان كما يقول الجمهور ، وإذ لو كان هذا شرطا لما كان لإباحة طعامهم فائدة .
قال ابن رشد في بداية المجتهد ما نصه:( ومن فرق بين ما حرم عليهم من ذلك في أصل شرعهم وبين ما حرموا على أنفسهم قال:ما حرم عليهم هو أمر حق ، فلا تعمل فيه الذكاة ، وما حرموا على أنفسهم أمر باطل ، فتعمل فيه التذكية .قال القاضي:والحق أن ما حرموا على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع فيجب أن لا يراعى اعتقادهم في ذلك .ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا واعتقاد شريعتنا لا يصح منهم ، وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به ، فذبائحهم والله أعلم جائزة على الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة ، فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم )اه .
والأمر كما قال القاضي رحمه الله تعالى ومراده بذبائحهم مذكاهم كيفما كانت تذكيته عندهم .وقد تقدم تحقيق معنى التذكية وأنها عبارة عن قتل حيوان بقصد أكله ، وأقوال علماء السلف ومحققي المالكية في ذلك ، فلله در مالك والمالكية ، إن كلامهم في هذه المسألة أظهر من كلام مخالفيهم دليلا وأليق بيسر الحنيفية السمحة .ومن العجائب أن كثيرا من الناس يحبون أن تكون الشريعة عسرا لا يسرا ، وحرجا لا سعة ، وإن هم لم يلتزموها إلا فيما يوافق أهواءهم ، فمن شدد على نفسه فذاك ذنب عقابه فيه ، ومن شدد على الأمة حثونا التراب في فيه ، والله أعلم وأحكم .
واقعة في التشديد في ذبائح أهل الكتاب
قد علم القراء أن بعض أهل الأهواء هبوا منذ عشر سنين لمعارضة فتوى الأستاذ الإمام في حل ذبائح أهل الكتاب .وقد أطلعنا بعض تلاميذنا القوقاسيين في هذه الأيام على كتاب لبعض أدعياء العلم في القوقاس يشنع فيها على الأستاذ الإمام وعلى المنار وينكر عليهما بعض المسائل التي لا يعقلها مثله ، ومنها مسألة حل طعام الذين أوتوا الكتاب وحل نسائهم ، فذكرنا ذلك في واقعة وقعت من زهاء قرن في هذه البلاد تلافاها علماء الأزهر وقد نشرناها في ( ص 786 ) مجلد المنار السادس نقلا عن الجزء الرابع من تاريخ الجبرتي .قال في حوادث سنة 1236:
( وفيه من الحوادث أن الشيخ إبراهيم الشهير بباشا المالكي بالإسكندرية قرر في درس الفقه أن ذبيحة أهل الكتاب في حكم الميتة لا يجوز أكلها وما ورد من إطلاق الآية فإنه قبل أن يغيروا ويبدلوا في كتبهم فلما سمع فقهاء الثغر ذلك أنكروه واستغربوه ثم تكلموا مع الشيخ إبراهيم المذكور وعارضوه فقال:أنا لم أذكر ذلك بفهمي وعلمي وإنما تلقيت عن الشيخ علي الميلي المغربي وهو رجل عالم متورع موثوق بعلمه:ثم إنه أرسل إلى شيخه المذكور بمصر يعلمه بالواقع فألف رسالة في خصوص ذلك وأطنب فيها فذكر أقوال المشايخ والخلافات في المذاهب واعتمد قول الإمام الطرطوشي في المنع وعدم الحل وحشا الرسالة بالحط على علماء الوقت وحكامه وهي نحو الثلاثة عشر كراسة ( كذا ) وأرسلها إلى الشيخ إبراهيم فقرأها على أهل الثغر فكثر اللغط والإنكار خصوصا وأهل الوقت أكثرهم مخالفون للملة وانتهى الأمر إلى الباشا فكتب مرسوما إلى كتخدا بيك بمصر وتقدم إليه بأن يجمع مشايخ الوقت لتحقيق المسألة وأرسل إليه أيضا بالرسالة المصنفة .فأحضر كتخدا بيك المشايخ وعرض عليهم الأمر فلطف الشيخ محمد العروسي العبارة وقال:الشيخ علي الميلي رجل من العلماء تلقى عن مشايخنا لا ينكر علمه وفضله وهو منعزل عن خلطة الناس إلا أنه حاد المزاج وبعقله بعض خلل والأولى أن نجتمع به ونتذاكر في غير مجلسكم وننهي بعد ذلك الأمر إليكم .
فاجتمعوا في ثاني يوم وأرسلوا إلى الشيخ علي يدعونه للمناظرة فأبى الحضور وأرسل الجواب مع شخصين من مجاوري المغاربة إنه لا يحضر مع الغوغاء بل يكون مجلس خاص يتناظر فيه مع الشيخ محمد بن الأمير بحضرة الشيخ حسن القويسني والشيخ حسن العطار فقط لأن ابن الأمير يناقشه ويشن عليه الغارة .فلما قالا ذلكم القول تغير ابن الأمير وأبرق وتشاتم بعض من المجالس مع الرسل وعند ذلك أمروا بحبسهما في بيت الآغا وأمروا الآغا بالذهاب إلى بيت الشيخ علي وإحضاره بالمجلس ولو قهرا عنه فركب الآغا وذهب إلى بيت المذكور فوجده قد تغيب فأخرج زوجته ومن معها من البيت وسمر البيت فذهب إلى بيت بعض الجيران .
ثم كتبوا عرضا محضرا وذكروا فيه بأن الشيخ علي على خلاف الحق وأبى عن حضور مجلس العلماء والمناظرة معهم في تحقيق المسألة وهرب واختفى لكونه على خلاف الحق ولو كان على الحق ما اختفى ولا هرب والرأي لحضرة الباشا فيه إذا ظهر وكذلك في الشيخ إبراهيم باشا الإسكندري ( كذا ) وتمموا العرض وأمضوه بالختوم الكثيرة وأرسلوه إلى الباشا .وبعد أيام أطلقوا الشخصين من حبس الآغا ورفعوا الختم عن بيت الشيخ علي ورجع أهله إليه ، وحضر الباشا إلى مصر في أوائل الشهر ورسم بنفي الشيخ إبراهيم باشا إلى بنغازي ولم يظهر الشيخ علي من اختفائه )اه .
/خ5