حليّة الطيبات والمحصنات للمؤمنين
{الْيَوْمَ}: قيل إنَّ المراد به يوم عرفة ،وقيل هو اليوم الَّذي تلا فتح خيبر .وذهب بعض المفسرين المتأخرين إلى أنَّه يوم ( غدير خم ) ،باعتبار أنَّه اليوم الَّذي برز الإسلام فيه كقوّة تمتلك السيطرة على أوضاع المجتمع وتستطيعبفعل ذلكإصدار مثل هذا الحكم لمصلحة أتباعه دون أن يساوره أي قلق بسبب الأعداء .ولكن الملحوظ أنَّ مثل هذه الأحكام ليست بدعاً من الأحكام الإسلاميّة العاديّة الّتي سبق أن بيّنها القرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة ،ما قد يكون أكثر خطورة على الواقع الاجتماعي عصر الدعوة كتحريم الخمر والميسر والرّبا ،وغير ذلك مما يتصل بالسلوك العام للنّاس ،لا سيّما إذا عرفنا أنَّ الآية واردة في سياق الرخصة مما كان النّاس يمارسونه لا في سياق التحريم ،كما في قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} حيث أكَّد الله حلّيتها امتناناً على النّاس وبياناً للطابع التشريعي السمح للإسلام الَّذي ينطلق من مصلحة الإنسان في حاجاته الطبيعيّة ،ومن فطرة الإنسان في استطابة الطيِّبات من الطعام واستخباث الخبائث ،والإقبال على ما يصلح بدنه مما تستطيبه عناصر الجسد في المنافع الموجودة فيه حتّى لو كان مرّ المذاق في الطعام .
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ حِلٌّ لَّكُمْ} ما يحل لكم منه في التشريع الإلهي العام ،فلا يجوز لكم أكل الطعام الَّذي صدر الحكم بتحريمه ،وهو{الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أو مما لم يذكر اسم الله عليه ،لأنَّ مثل هذه الأمور لا علاقة لها بالجهة الّتي تقدمها ،بل بالعنوان الَّذي تتمثل فيه .أمّا خصوصيّة أهل الكتاب فقد تتمثل في نقطتين:
النقطة الأولى: مسألة النجاسة والطهارة ،فقد يتوقف النّاس في أمر الطعام الَّذي يلامسونه بأيديهم لاحتمال نجاسته بمباشرتهم إياه ،فكانت هذه الآية إعلاناً تشريعيّاً بطهارتهم ،فتكون الآية دالة على أنَّه لا مانع من أكل طعام أهل الكتاب الَّذي يباشرونه بأيديهم من هذه الجهة ،لأنَّهم طاهرون في ذواتهم ،ولعلَّ هذا ما نستوحيه من الأحاديث الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت( ع ) بأنَّ المراد بالطعام الحبوب وأشباهها ،في مقابل القول بأنَّ المراد به الذبائح ،فليس المقصود الحبوب اليابسة لتحمل على مسألة التعاطي بالبيع والشراء ،لأنَّ مثل هذه المسألة لم تكن واردةً في حساب التحريم ولم تكن مشكلةً في الواقع الإسلامي الَّذي كان المسلمون يتعاملون فيه مع أهل الكتاب في المدينة بشكلٍ طبيعي ،بل المقصود به الطعام المطبوخ الَّذي يقدمونه للنّاس .
وقد ذهب فقهاء المسلمين السنَّة وبعض فقهاء الشيعة الإماميّة إلى طهارة أهل الكتاب في ذواتهم ،وهو الَّذي نرتئيه ونفتي به في نطاق الرأي الفقهي العام الَّذي نفتي به وهو طهارة كل إنسان .
النقطة الثانية: وهي مسألة حليّة ذبائحهم بلحاظ اشتراط إسلام الذابح في حليّة الذبيحة كما هو المشهور الَّذي كاد أن يكون إجماعاً لدى فقهاء الشيعة الإماميّة ،وربَّما استوحى البعض ذلك من الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت( ع ) في تفسير الطعام بالحبوب وأشباهها ،وفي مقابل التفسير المعروف عند أهل السنَّة بأنَّ المراد به ذبائحهم .ولكننا نجد أنَّ الحديث المفصل في هذه الرِّوايات هو ما رواه الكليني محمَّد بن يعقوبفي الكافيعن أبي علي الأشعري ،عن محمَّد بن عبد الجبّار ،عن محمَّد بن إسماعيل ،عن عليّ بن النعمان ،عن ابن مسكان ،عن قتيبة الأعشى ،قال: «سأل رجل أبا عبد الله( ع ) وأنا عنده ،فقال: له: الغنم يرسل فيها اليهودي والنصراني فتعرض فيها العارضة فتذبح أنأكل ذبيحته ؟فقال أبو عبد الله( ع ): لا تدخل ثمنها في مالك ولا تأكلها فإنَّما هي الاسم ولا يؤمن عليها إلاَّ مسلم .فقال له الرّجل: قال الله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ حِلٌّ لَّكُمْ} فقال له أبو عبد الله( ع ): كان أبي( ع ) يقول: إنَّما هو الحبوب وأشباهها » .
وظاهر هذا الحديث أنَّ مسألة ذبائح أهل الكتاب ليست محرَّمة بقول مطلق ،بل بلحاظ أنَّه لا بُدَّ في حل الذبيحة من إحراز التسميةالّتي هي الشرط الأساس كما في القرآنولا مجال لإحرازها في ذبيحة الكتابي الّذي لا يرى شرطيّتها ،فلا يوثق بتوفرها لديه في الذبح .فلو أحرزنا التسمية مع شروط التذكية كانت الذبيحة حلالاً ،وهذا ما يُفهم من التأكيد في أحاديث أئمة أهل البيت( ع ) على الاسم الَّذي لا بُدَّ من إحرازه في الذبح وحليّة الذبيحة ،وهذا ما استقربه الشهيد الثاني في المسالك وأفتى به الصدوق وابن أبي عقيل وابن الجنيد وبعض الفقهاء المعاصرين ،وهو الَّذي نفتي به مع بعض التحفظات .
وتبقى مسألة المراد من الآية خاضعةً لتفسير أهل البيت( ع ) للطعام بالحبوب وأشباهها ،وربَّما كان هذا التفسير متطلعاً للتأكيد على أنَّ الآية لا تشمله في مسألة الحل بلحاظ عدم استكمال شروط الذبيحة فيه عندهم .والله العالم .
{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فلا يحرم عليكم إطعامهم من طعامكم ،لأنَّ اختلاف الانتماء الديني لا يؤدّي إلى اختلاف في العلاقات الاجتماعيّة الإنسانيّة في تبادل الدعوات إلى الطعام من خلال الروابط الخاصة والمتعلّقة بالقربى والجوار ونحوهما .وليست المسألة كمسألة التزاوج بين المسلمات والكفَّار في قوله تعالى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [ الممتحنة: 10] حيث يرتفع الحلُّ من الجانبين .
{وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الْمُؤْمِنَتِ} وأحلَّ الله لكم الزواج بالعفيفات من المؤمنات ،{وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} فيجوز الزواج بهن لأنهن يؤمنّ بالله واليوم الآخر وبالتوراة والإنجيل ،ما يجعل هناك قاعدة للعلاقة الزوجيّة باعتبار أنَّ المسلم يؤمن بذلك كلِّه أيضاً ،خلافاً للكوافر اللاتي لا يؤمنّ بالله بل يلتزمن الشرك ،فلا يجوز للمسلمين التزوج والإمساك بعصم الكوافر أو بالمشركات حتّى يؤمنَّ .وعلى ضوء هذا ،فإنَّ المسألة في الزواج ترتكز على الإيمان حتّى مع اختلاف بعض خصوصياته مما لا مجال فيه للكافرين بالله والمشركين به ،وهذا ما جاءت به الآية الكريمة في قوله تعالى:{وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [ الممتحنة: 10] حيث وردت في سياق الزواج بالنساء الكافرات من مجتمع مكة ،فلا تشمل نساء أهل الكتاب ،والآية الكريمة في قوله تعالى:{وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [ البقرة: 221] فإنَّها لا تشمل أهل الكتاب ،لأنَّ مصطلح المشركين في القرآن لا يشملهم ،ولا تصلح كل منهماعلى تقدير الشمولأن تكون ناسخة لهذه الآيات ،لأنَّها متأخرة عنها ولا ينسخ السابق اللاحق .
تصلح كل منهماعلى تقدير الشمولأن تكون ناسخة لهذه الآيات ،لأنَّها متأخرة عنها ولا ينسخ السابق اللاحق .
وقد حاول بعض المانعين لزواج الكتابيّة تأويل الآية بأنَّ المراد ب{وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} اللاتي أسلمن منهنَّبعد كفر،والمراد بال{وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الْمُؤْمِنَتِ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الآخرةِ مِنَ الْخَسِرِينَ} اللاتي كنَّ في الأصل مؤمنات بأن ولدن على الإسلام ،وذلك أنَّ قوماً كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر ،فبيّن سبحانه أنَّه لا حرج في ذلك ،فلهذا أفردهُنَّ بالذكر ،حكى ذلك أبو القاسم النجفي .ولكن هذا القول مردود بأنَّه دعوى من دون دليل ،لأنَّ ظاهر المقابلة بين المؤمنات واللاتي من أهل الكتاب إرادة التنوع في واقع الانتماء الديني لا في الانتماء السابق مع اتحاد الانتماء الحالي .والله العالم .
{إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهنَّ ،ولعلَّ التعبير عن المهور بالأجور باعتبار انتفاع الرّجل بالمرأة من حيث المنفعة الجنسيّة واللذة الغريزيّة الّتي يحصل عليها منها ،فأشبه حال الزواج حال الإجارة الّتي يدفع فيها المستأجر ماله في قبال المنفعة ،مع التأكيد على أنَّ حقيقة الزواج تختلف عن حقيقة الإجارة في الشكل والمضمون والحقوق ،ما يجعل من الزواج مسألة استعارة على أساس التشبيه بالشكل فقط .وقد استخدم هذا التعبير في قوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فََاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [ النساء: 24] .
{مُحْصِنِين} في العلاقة المذكورة بهنَّ بمعنى ارتكازها على العفة باعتبار العلاقة الزوجيّة المحلّلة الّتي هي عنوان العفة في ارتباط الرّجل بالمرأة{غَيْرَ مُسَافِحِينَ} بالزنى ،بأن تكون العلاقة بينهما علاقة الزاني بالزانية لعدمشرعيّة العلاقة ،{وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} فلا تكون الرابطة بينهما رابطة الصديق بصديقته الّتي يستمتع بها سرّاً عن طريق الاستمتاع الجنسي بعيداً عن الارتباط الزوجي .
وهذا هو التجسيد العملي للإيمان الَّذي لا يتمثل بالعقيدة والكلمة فحسب ،بل يمتد إلى الجانب العملي في الوقوف عند حدود الله في الحلال والحرام ،لأنَّ ذلك يؤكد عمق الإيمان في الذات وثباته في الواقع .{وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَنِ} بالتمرّد عليه والابتعاد عن السير على خطه المستقيم في الالتزام بحلال الله وحرامه ،فسيقع في هوّة الكفر في نهاية المطاف ،لأنَّ السير مع المعصية يضعف الإيمان في النفس ،فإذا امتد في كل مواقعها ،زال كليّاً من الذات ،{فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} كما يحبط عمل الكافر ،فلا ينتفع من الإيمان بشيء ،لأنَّ عمله لن يكون صورةً لإيمانه بل يكون وجهاً من وجوه الكفر ،وهو الوجه العملي له ،{وَهُوَ فِى الآخرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ آل عمران: 85] ،{الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [ الشورى: 45] .
وقد وردت روايات عدّة في تفسير هذه الآية عن أئمة أهل البيت( ع ) منها:
1ما رواه محمَّد بن يعقوب الكليني ،عن الحسين بن محمَّد ،عن معلّى بن محمَّد ،عن الحسن بن عليّ ،عن حمّاد بن عثمان ،عن عبيد بن زرارة ،قال: «سألت أبا عبد الله( ع ) عن قول الله عز وجلَّ:{وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} قال: ترك العمل الَّذي أقرّ به ،من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل » .
2وجاء في رواية أخرى عن أبان بن عبد الرحمن ،قال: «سمعت أبا عبد الله( ع ) يقول: أدنى ما يخرج به الرّجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحق فيقيم عليه ،قال:{وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وقال: الَّذي يكفر بالإيمان الَّذي لا يعمل بما أمر الله به ولا يرضى به » .
3وفي رواية أخرى عن محمَّد بن مسلم ،عن أحدهما( ع ) في قول الله:{وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} قال: هو ترك العمل حتّى يدعه أجمع ،قال: منه الَّذي يدع الصلاة متعمداً لا من شغل ولا من سكر ،يعني النوم "