الكلام السامي موصول في بيان نهى المؤمنين عن أن يتخذوا نصراء من اليهود والنصارى وسائر الكفار ، وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه أن هؤلاء اليهود والنصارى لا تصح موالاتهم لا للأسباب السابقة من أنهم يوالي بعضهم بعضا ولا يوالونكم ، ومن أنه لا يواليهم إلا من يكون في قلبه مرض ، ومن أن موالاتهم تؤدي إلى استحسان ما عندهم ، وإن ذلك يؤدي إلى الارتداد ، ولا من أن موالاتهم مناقضة لولاية الله ورسوله والمؤمنين ، وهم الأولياء حقا وصدقا ، لا تصح موالاتهم لهذه الأسباب فقط ، بل لها ولأمر واقع منهم ، مستمر فيهم ، وهو الاستهزاء بدينكم ، واللعب به ، والعبث المستمر ، ومن يواليهم وهم على هذه الحال ، فقد تخلى عن دينه وإيمانه ، ولقد قال تعالى:
( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) الولي هنا النصير الموالي ، وولى الأمر الكالئ الحامي ، والأنيس الذي يرجى في الشدائد ، ويرجع إليه في الكروب ، والملجأ والمعاذ .
وقد قصرت الولاية على هؤلاء بأداة القصر ( إنما ) والمعنى أن الله تعالى ورسوله والمؤمنين الصادقين في إيمانهم الذين لم يعترهم زيغ ولا ضعف ، ولا استخذاء واستكانة للذل ، واستسلام للأعداء ، ولا ولى للمؤمن غير هؤلاء ، فلا يصح للمؤمن أن يطلب بأي صورة النصرة من غيرهم ، لأن قلوبهم مهما يكونوا مطوية على ضغن شديد وحقد مستمكن ، وهم لا يريدون بالإسلام وأهله إلا الهوان بل الفناء .
وفي هذا النص عبرة للمعتبرين الذين يرتمون في أحضان أعداء الإسلام ويوالونهم وهم الذين يؤذون المسلمين ويخرجونهم من ديارهم ، ويظاهرون على إخراجهم والنبي عليه السلام يقول:( المسلم أخو المسلم لا يحقره ، ولا يظلمه ولا يسلمه ، ولا يخذله ){[955]} .
( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) هذه أوصاف المؤمنين الجديرين بأن يكونوا مع الله ورسوله في ولاية المؤمنين ، وقد ذكرت لهم أوصافا ثلاثة:كل واحد منها يومئ إلى معنى اجتماعي يدخل في تكوين الجماعة الربانية التي لا تعمل إلا لله ، ولا تقوم إلا له ، الأول إقامة الصلاة ، أي أداؤها مقومة كاملة لا اعوجاج فيها ، لتؤدي غايتها وهي تربية الوجدان الاجتماعي الذي يكون معه الإيثار ، والسيطرة على الأهواء المردية المخزية ، وهي الصلاة التي قال الله تبارك وتعالى فيها:(. . .إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . .45 ) ( العنكبوت ) .
والوصف الثاني أنهم يؤتون الزكاة ، أي يعطونها سمحة بها نفوسهم ، راضية بعطائها قلوبهم يحسبون أن عطاءها مغنم لا مغرم ، وذلك هو التعاون المادي المنبعث من القلب ، وإذا كانت الصلاة مبعث التآلف الروحي ،فالزكاة مظهر التعاون المادي الخالص .
والوصف الثالث ذكره سبحانه وتعالى بقوله:( وهم راكعون ) .
لقد قال كثير من المفسرين:إن هذه الجملة حالية من قوله تعالى:( ويؤتون الزكاة ) أي:ان إعطاء الزكاة يكون في حال الركوع ، ويقولون:إن سبب ذكر ذلك أن إمام الهدى عليا أعطى صدقة وهو راكع ، ولا نرى ذلك ، لأن ذلك قطع للصلاة وانصراف عنها ، ولا يكون ذلك من على كرم الله وجهه ، وثانيا – أن اللفظ ، ومؤدى ذلك أنه يكون محمودا من المؤمنين أن يؤدوا زكاتهم وهم يركعون ركوع الصلاة .
والذي نراه أن الركوع هنا ليس هو ركوع الصلاة المفروضة ، إنما هو الخضوع المطلق لله تعالى في كل أعمالهم ، في مصانعهم ، ومتاجرهم ومزارعهم ، وسياستهم ، بحيث يكون كل شيء لله تعالى ، ويتحقق فيهم قول النبي عليه السلام:( لا يؤمن أحدكم حتى يجب الشيء لا يحبه إلا لله ){[956]} . سبحانه في الغدوات والروحات .جاء في مفردات الأصفهاني ما نصه:والركوع يطلق بمعنى الخضوع لله .
( الركوع:الانحناء فتارة الهيئة المخصوصة في الصلاة ، كما هي وتارة في التواضع والتذلل ، وإما في غيرها ) والله أعلم .