سبب النّزول
جاء في تفسير مجمع البيانوتفاسير وكتب أُخرىنقلا عن عبد الله بن عباس قوله: أنّه كان في أحد الأيّام جالساً إلى جوار بئر زمزم ،ويروي للناس أحاديث النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فتقرب إِليهمفجأةرجل كان يرتدي عمامة ،ويضع على وجهه نقاباً ،وكان كلما تلا ابن عباس حديثاً عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) تلا هو حديثاً عن النّبي مستهلا قوله بعبارة: «قال رسول الله ...» فأقسم عليه ابن عباس أن يعرف نفسه ،فرفع هذا الشخص النقاب عن وجهه وصاح أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري ،سمعت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهاتين وإِلاّ صمتا ،ورأيته بهاتين وإِلاّ فعميتا ،يقول: «علي قائد البررة ،وقاتل الكفرة منصور من نصره ،مخذول من خذله » .
وأضاف أبو ذر: أمّا إنّي صليت مع رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوماً من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهم أشهد بأنّي سألت في مسجد رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلم يعطني أحد شيئاً ،وكان علي( عليه السلام ) راكعاً فأومى إليه بخنصره اليمنى وكان يختتم فيها فاقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللّهم موسى سألك فقال: ( ربّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشددّ به أزري وأشركه في أمري ) ،فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: ( سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما ..) اللّهم وأنا محمّد نبيّك وصفيك اللّهمّ فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيراً عليّاً أشدد به ظهري » .
قال أبو ذر( رحمه الله ): فما استتم رسول اللّه( صلى الله عليه وآله ) كلامه حتى نزل جبرائيل من عند اللّه عزّ وجلّ فقال( عليه السلام ): يا محمّد اقرأ ،قال: وما أقرأ ؟قال: إقرأ: ( إنّما وَلِيّكُم اللّهُ وَرسُولُهُ والذينَ آمنُوا الذينَ يُقيمُونَ الصّلاة ويُؤتونَ الزّكاةَ وهُم راكِعُونَ ){[1068]} .
وطبيعي أنّ سبب النّزول هذا قد نقل عن طرق مختلفة ( كما سيأتي تفصيله ) بحيث تختلف الرّوايات أحياناً بعضها عن البعض الآخر في جزئيات وخصوصيات الموضوع ،لكنها جميعاً متفقة من حيث الأساس والمبدأ .
التّفسير
ابتدأت هذه الآية بكلمة «إِنّما » التي تفيد الحصر ،وبذلك حصرت ولاية أمر المسلمين في ثلاث هم: الله ورسوله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،والذين آمنوا وأقاموا الصّلاة وأدوا الزّكاة وهم في حالة الركوع في الصّلاة كما تقول الآية: ( إِنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون ) .
ولا شك أنّ الرّكوع المقصود في هذه الآية هو ركوع الصّلاة ولا يعني الخضوع ،لأنّ الشارع المقدس اصطلح في القرآن على كلمة الرّكوع للدلالة على الركن الرّابع للصلاة .
وبالإِضافة إلى الرّوايات الواردة في شأن نزول الآية ،والتي تتحدث عن تصدق علي بن أبي طالب( عليه السلام ) بخاتمه في الصّلاةوسنتطرق إِليها بالتفصيلفإنّ جملة ( ويقيمون الصّلاة ) تعتبر دليلا على هذا الأمر ،وليس في القرآن أثر عن ضرورة أداء الزّكاة مقرونة بالخضوع ،بل ورد التأكيد على دفع الزّكاة بنيّة خالصة وبدون منة .
كما لا شك في أنّ كلمة «الولي » الواردة في هذه الآية ،لا تعني الناصر والمحب ،لأنّ الولاية التي هي بمعنى الحب أو النصرة لا تنحصر في من يؤدون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون ،بل تشمل كل المسلمين الذين يجب أن يتحابوا فيما بينهم وينصر بعضهم البعض ،حتى أُولئك الذين لا زكاة عليهم ،أو لا يمتلكونأساساًشيئاً ليؤدوا زكاته ،فكيف يدفعون الزّكاة وهم في حالة الركوع ؟!هؤلاء كلهم يجب أن يكونوا أحباء فيما بينهم وينصر بعضهم البعض الآخر .
ومن هنا يتّضح لنا أنّ المراد من كلمة «ولي » في هذه الآية ،هو ولاية الأمر والإِشراف وحق التصرف والزعامة المادية والمعنوية ،خاصّة وقد جاءت مقترنةً مع ولاية النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وولاية الله حيث جاءت الولايات الثلاث في جملة واحدة .
وبهذه الصورة فإن الآية تعتبر نصّاً قرآنياً يدل على ولاية وإِمامة علي بن أبي طالب( عليه السلام ) للمسلمين .
شهادة الأحاديث والمفسّرين والمؤرخين:
لقد قلنا إنّ الكثير من الكتب الإِسلامية ومصادر أهل السنّة تشتمل على العديد من الرّوايات القائلة بنزول هذه الآية في شأن الإِمام علي بن أبي طالب( عليه السلام ) ،وقد ذكرت بعض هذه الرّوايات قضية تصدق الإِمام علي( عليه السلام ) بخاتمه على السائل وهو في حالة الركوع ،كما لم تذكر روايات أُخرى مسألة التصدق هذه ،بل اكتفت بتأييد نزول هذه الآية في حق علي( عليه السلام ) .
وقد نقل هذه الرّوايات كل من ابن عباس ،وعمار بن ياسر ،وعبد الله بن سلام ،وسلمة بن كهيل ،وأنس بن مالك ،وعتبة بن حكيم ،وعبد الله بن أبي ،وعبد الله بن غالب ،وجابر بن عبد الله الأنصاري ،وأبي ذر الغفاري{[1069]} .
وبالإِضافة إلى الرواة العشرة المذكورين ،فقد نقلت كتب الجمهور ( أهل السنة ) هذه الرواية عن علي بن أبي طالب( عليه السلام ) نفسه{[1070]} .
والطّريف أنّ كتاب ( غاية المرام ) قد نقل 24 حديثاً عن طرق أهل السنة و19 حديثاً عن طرق الشّيعة{[1071]} .
وقد تجاوز عدد الكتب التي أوردت هذه الرّوايات الثلاثين كتاباً ،كلها من تأليف علماء أهل السنة ،منهم: محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص88 ،والعلامة القاضي الشوكاني في تفسير فتح القدير ج 2 ،ص 50 ،ومن هذه المصادر المعتمدة أيضاً: جامع الأُصول ج 9 ،ص 478 ،وفي أسباب النّزول للواحدي ص 148 ،وفي لباب النقول للسيوطي ص 90 ،وفي تذكرة سبط ابن الجوزي ص 18 ،وفي نور الأبصار للشبلنجي ص 105 ،وفي تفسير الطبري ص 165 ،وفي كتاب الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني ص 56 ،وفي مفاتيح الغيب للرازي ج 3 ،ص 431 ،وفي تفسير الدرّ المنثور ج2 ،ص393 ،وفي كتاب كنز العمال ج6 ،ص391 ،وفي مسند ابن مردويه ومسند ابن الشيخ ،بالإِضافة إلى صحيح النسائي ،وكتاب الجمع بين الصحاح الستة ،وكتب عديدة أُخرى نقلت حديث الولاية{[1072]} .
إذن كيف يمكنوالحالة هذهإنكار هذه الأحاديث والمصادر التي نقلتها ، في حين أنّها اكتفت في مجال أسباب نزول آيات أُخرى بحديث واحد أو حديثين ؟!لعل التطرف الطائفي هو سبب تجاهل كل هذه الأحاديث والشهادات التي أدلى بها العلماء في مجال سبب نزول هذه الآية .
فلو أمكن التغاضي عن كل الرّوايات التي وردت في تفسير هذه الآية ،وهي روايات كثيرة للزم أن لا نعتمد على أي رواية في تفسير النصوص القرآنية ،لأنّنا قلما نجد أسباباً لنزول آية أو آيات قرآنية جاءت مدعومة بهذا العدد الكبير من الرّوايات ،كما ورد في هذه الآية الكريمة .
إِنّ هذه القضية كانت بدرجة من الوضوح بحيث أنّ حسان بن ثابت الشاعر المعروف الذي عاصر واصطحب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )جاء بمضمون آية الولاية في قالب شعري من نظمه الذي قاله في حق علي بن أبي طالب( عليه السلام ) حيث يقول:
فأنت الذي أعطيت إِذ كنت راكعاً ***زكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية *** وبينها في محكمات الشرائع
وقد وردت هذه الأشعار باختلافات طفيفة في كتب كثيرة ،منها كتاب تفسير ( روح المعاني ) للألوسي ،وكتاب ( كفاية الطالب ) للكنجي الشافعي ،وكتب كثيرة أُخرى .
الرّد على اعتراضات ثمانية:
لقد أصرت جماعة من المتطرفين من أهل السنّة على تكرار الاعتراضات حول نزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب( عليه السلام ) ،وكذلك على تفسير ( الولاية ) الواردة في الآية الكريمة بمعنى الإِشراف والتصرف والإِمامة ،وفيما يلي نعرض أهم هذه الاعتراضات للبحث والنقد ،وهي:
1قالوا: أنّ عبارة «الذين » المقترنة بكلمة «آمنوا » الواردة في الآية: لا يمكن أن تطبق على المفرد ،وذلك ضمن اعتراضهم على الرّوايات التي تقول بنزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب( عليه السلام ) وقالوا: أنّ الآية أشارت بصيغة الجمع قائلة ( الذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون ) فكيف يمكن أن تكون هذه الآية في حق شخص واحد كعلي( عليه السلام ) ؟
الجواب:
لقد زخرت كتب الأدب العربي بجمل تمّ التعبير فيها عن المفرد بصيغة الجمع ،وقد اشتمل القرآن الكريم على مثل هذه الجمل ،كما في آية المباهلة ،حيث وردت كلمة «نساءنا » بصيغة الجمع مع أنّ الرّوايات التي ذكرت سبب نزول هذه الآية أكّدت أن المراد من هذه الكلمة هي فاطمة الزهراء( عليها السلام ) وحدها ،وكذلك في كلمة ( أنفسنا ) في نفس الآية وهي صيغة جمع ،في حين لم يحضر من الرجال في واقعة المباهلة مع النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) غير علي( عليه السلام ) .
وكذلك نقرأ في الآية ( 172 ) من سورة آل عمران في واقعة أحد قوله تعالى: ( الذين قال لهم الناس إِنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايماناً ...) .
وقد بيّنا في الجزء الثّالث من تفسيرنا هذا عند تفسير هذه الآية ،أن بعض المفسّرين ذكروا أنّها نزلت بشأن ( نعيم بن مسعود ) الذي لم يكن إِلاّ واحداً .
ونقرأ في الآية ( 52 ) من هذه السّورةأيضاًقوله تعالى:(...يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ...) في حين أن هذا الجزء من الآية نزل في شخص واحد ،كما جاء في سبب النّزول ،وهو ( عبد الله بن أبي ) وقد مضى تفسير ذلك .
وكذلك في الآية الأولى من سورة الممتحنة ،والآية الثامنة من سورة ( المنافقون ) والآيتين ( 215 و274 ) من سورة البقرة ،نقرأ فيها كلها عبارات جاءت بصيغة الجمع ،بينما الذي ذكر في أسباب نزول هذه الآيات هو أنّ المراد في كل منها شخص واحد .
والتعبير بصيغة الجمع عن شخص واحد في القرآن الكريم إمّا أن يكون بسبب أهمية موقع هذا الشخص ولتوضيح دوره الفعال ،أو لأجل عرض الحكم القرآني بصيغة كلية عامّة حتى إِذا كان مصداقه منحصراً في شخص واحد ،وقد ورد في كثير من آي القرآن ضمير الجمع للدلالة على الله الواحد الأحد ،وذلك تعظيماً له جلّ شأنه .
وبديهي أنّ استخدام صيغة الجمع للدلالة على الواحد يعتبر خلافاً للظاهر ،ولا يجوز بدون قرينة ولكن مع وجود الرّوايات الكثيرة الواردة في شأن نزول الآية تكون لدينا قرينة واضحة على هذا التّفسير وقد اكتفى في موارد أُخرى بأقل من هذه القرينة ؟!
2وقال الفخر الرّازي ومتطرفون آخرون: أنّ عليّاً( عليه السلام ) بما عرف عنه من خشوع وخضوع إلى الله ،بالأخص في حالة الصّلاة ( إلى درجة ،أنّهم استلوا أثناء صلاته سهماً كان مغروزاً في رجله ،دون أن يحس بالألم كما في ( الرواية المعروفة ) فكيف يمكن القول بأنّه سمع أثناء صلاته كلام السائل والتفت إِليه ؟!
الجواب:
إِنّ الذين جاؤوا بهذا الاعتراض قد غفلوا عن أن سماع صوت السائل والسعي لمساعدته لا يعتبر دليلا على الانصراف والتوجه إلى النفس ،بل هو عين التوجه إلى الله ،وعلي( عليه السلام ) كان أثناء صلاته يتجرد عن ذاته وينصرف بكله إلى الله ،ومعروف أن التنصل عن خلق الله يعتبر تنصلا أيضاً عن الله ،وبعبارة أوضح: أن أداء الزّكاة أثناء الصّلاة يعد عبادة ضمن عبادة أُخرى ،وليس معناه القيام بمباح ضمن العبادة ،بعبارة ثالثة: إنّ ما يلائم روح العبادة هو الانشغال والانصراف أثناءها إلى الأُمور الخاصّة بالحياة والشخصية ،بينما التوجه إلى ما فيه رضى الله تعالى يتلائم بصورة تامّة مع روح العبادة ويؤكّدها .
ومن الضروري أن نؤكّد هنا أن الذوبان في التوجه إلى الله ،ليس معناه أن يفقد الإِنسان الإِحساس بنفسه ،ولا أن يكون بدون إرادة ،بل الإِنسان بإرادته يصرف عن نفسه التفكير في أي شيء لا صلة له بالله .
والطّريف في الأمر أنّ الفخر الرازي قد أوصله تطرّفه إلى الحدّ الذي اعتبر فيه ايماءة الإِمام علي( عليه السلام ) إلى السائل بأصبعهلكي يأخذ الخاتممصداقاً للفعل الكثير المنافي للصلاة ،في حين أن هناك أفعالا يمكن القيام بها أثناء الصّلاة أكثر بكثير من تلك الإِيماءة التي قام بها الإِمام( عليه السلام ) ،وفي نفس الوقت لا تضر ولا تمس الصّلاة بشيء ،ومن هذه الأفعال قتل الحشرات الضارة كالحية والعقرب ،ورفع الطفل من محله ووضعه فيه ،وإِضاع الطفل الرضيع ،وكل هذه الأفعال لا تعتبر من الفعل الكثير في نظر الفقهاء ،فكيف يمكن القول بأن تلك الإِيماءة تعتبر من الفعل الكثير ؟!
وقد لا يكون هذا الخطأ غريباً عن عالم استولى عليه التطرف !
3أمّا الاعتراض الآخر في هذا المجال ،فهو أنّ كلمة ( ولي ) الواردة في الآية تعني الصديق والناصر وأمثالهما ،وليست بمعنى المتصرف أو المشرف أو ولي الأمر .
الجواب: لقد بيّنا في تفسير هذه الآية أن كلمة ( ولي )الواردة فيهالا يمكن أن تكون بمعنى الصديق أو الناصر ،لأنّ هاتين الصفتين قد ثبتت شموليتهما لكل المسلمين المؤمنين ،وليستا منحصرتين بالمؤمنين المذكورين في الآية والذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة أثناء الركوع ،وبعبارة أُخرى: إنّ الصداقة والنصرة حكمان عامان ،بينما الآيةموضوع البحثتهدف إلى بيان حكم خاص بشخص واحد .
4وقالواأيضاًأنّ عليّاً( عليه السلام ) لم يكن يمتلك شيئاً من حطام الدنيا حتى تجب عليه الزّكاة ،ولو قلنا بأنّ المراد في الآية هو الصداقة المستحبة فهي لا تسمى زكاة ؟!
الجواب:
أوّلا: إِنّ التّأريخ ليشهد على امتلاك علي( عليه السلام ) المال الوفير الذي حصل عليه من كدّ يمينه وعرق جبينه وتصدق به في سبيل الله ،وقد نقلوا في هذا المجال أنّ عليّاً( عليه السلام ) اعتق وحرر ألف رقبة من الرقيق ،كان قد اشتراهم من ماله الخاص الذي كان حصيلة كدّه ومعاناته ،أضف إلى ذلك فقد كان( عليه السلام ) يحصلأيضاًعلى حصته من غنائم الحرب ،وعلى هذا الأساس فقد كان علي( عليه السلام ) يمتلك ذخيرة بسيطة من المال ،أو من نخلات التمر ممّا يتعين فيهما الزّكاة .
ونحن نعلمأيضاًان الفورية الواجبة في أداء الزّكاة هي «فورية عرفية » لا تتنافى مع اداء الصّلاة ،أي لا فرق في اداء الزّكاة سواء كان وقت الأداء قبل وقت الصّلاة أو أثناءها .
ثانياً: لقد أطلق القرآن الكريم في كثير من الحالات كلمة الزّكاة على الصدقة المستحبة ،وبالأخص في السور المكية ،حيث وردت هذه الكلمة للدلالة على الصدقة المستحبة ،لأنّ وجوب الزّكاة كان قد شرع بعد هجرة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة ،كما في ( الآية 3 من سورة النمل ،والآية 39 من سورة الروم ،والآية 4 من سورة لقمان ،والآية 7 من سورة فصلت وغيرها ) .
5ويقولون: إِنّهم حتى لو أذعنوا بأن علياً( عليه السلام ) هو الخليفة بعد النّبي مباشرة ،فهذا لا يعني أن يكون علي( عليه السلام ) ولياً في زمن الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،لأنّ ولايته في زمن النّبي لم تكن ولاية فعلية ،بل كانت ولاية بالقوة ،وأن ظاهر الآيةموضوع البحثيدل على الولاية الفعلية .
الجواب:
نلاحظ كثيراً في كلامنا اليوميوكذلك في النصوص الأدبيةاطلاق اسم معين أو صفة خاصّة على أفراد لا يتمتعون بمزاياها الفعلية ،بل يمتلكون المزية أو المزايا بالقوة ،وهذا مثل أن يوصي انسان في حياته ويعين لنفسه وصياً وقيماً على أطفاله فيكون الشخص الثّاني فور اقرار الوصية من قبل الشخص الأوّل وصياً وقيماً ،ويدعي بهذين العنوانين حتى لو كان الإِنسان الموصي باقياً على قيد الحياة .
ونحن نقرأ في الرّوايات التي نقلت في أسانيد الشّيعة والسنّة عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )بحقّ علي( عليه السلام ) أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعا علياً: وصيه وخليفته ،في حين أن هذين العنوانين لم يكونا ليتحققا في زمن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
والقرآن المجيدأيضاًيشتمل على مثل هذه التعابير ،ومن ذلك ما ورد عن ( زكريا ) الذي توسل إلى الله بقوله: (...هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب ...){[1073]} والمعروف أنّ المرادهنامن كلمة ( ولي ) المشرف الذي يتولى شؤون الإِشراف بعد الموت كما يعيّن الكثير من الناس في حياتهم من يقوم مقامهم بعد الموت ،ويسمّى الشخص المعين منذ لحظة تعيينه بالنائب أو الخليفة مع كون هذه الصفات بالقوة ،وليست بالفعل .
6واحتجّواأيضاًبقولهم: لماذا لم يعتمد علي( عليه السلام ) على هذا الدليل الواضح للدفاع عن حقّه ؟
الجواب:
لقد لاحظنامن خلال البحث الذي تناول الرّوايات في سبب نزول هذه الآيةأن هذا الحديث قد نقل في كتب عديدة عن الإِمام علي( عليه السلام ) نفسه ،ومن ذلك ما جاء في مسند «ابن مردويه » و«ابن الشّيخ » و«كنز العمال » وهذا بذاته دليل على استدلال الإِمام علي( عليه السلام ) بهذه الآية الشريفة .
ونقل في كتاب ( الغدير ) القيم عن كتاب ( سليم بن قيس الهلالي ) حديث مفصل مفاده أنّ عليّاً( عليه السلام ) حين كان منشغلا بحرب صفين ،تحدث في ميدان الحرب امام جمع من الناس مستدلا بدلائل عديدة في إثبات حقّه ،وكان من جملة ما استدل به الإِمام( عليه السلام ) هذه الآية الكريمة{[1074]} .
وجاء في كتاب ( غاية المرام ) نقلا عن أبي ذر( رضي الله عنه ) أنّ عليّاً( عليه السلام ) استدل في يوم الشورى بهذه الآية{[1075]} .
7وقد ادعواأيضاًأنّ هذا التّفسير الذي أوردناه موضوع البحث لا يتناسب أو لا يتلاءم مع الآيات الواردة قبل وبعد هذه الآية ،لأن تلك الآيات جاءت فيها كلمة «الولاية » بمعنى الصداقة .
الجواب:
لقد قلنا مراراًأنّ الآيات القرآنية بسبب نزولها بصورة تدريجية ،وبحسب الوقائع المختلفة تكون دائماً ذات صلة بالأحداث التي نزلت الآيات في شأنها ،أي أنّ الآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة ،ليست دائماً ذات مفهوم مترابط ،كما لا تشير دائماً إلى معنى واحد ،ولذلك يحصل كثيراً أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول ،وتكون النتيجة أن ينفصل مسير واتجاه كل آيةلصلتها بحادثة خاصّةعن مسير الآية التّالية لها لاختلاف الحادثة التي نزلت بشأنها ،وبما أنّ آية ( إِنّما وليكم الله ...) بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدق الإِمام علي( عليه السلام ) أثناء الركوع ،أمّا الآيات السابقة واللاحقة لهاكما رأينا وسنرىفقد نزلت في أحداث أُخرى ،لذلك لا يمكن الاعتمادهنا كثيراً على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات .
وهناك نوع من التناسب بين الآيةموضوع البحثوالآيات السابقة واللاحقة لها ،لأنّ الآيات الأُخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة والإِعانة ،بينما الآيةموضوع البحثتحدثت عن الولاية بمعنى القيادة والتصرف ،وبديهي أنّ القائد والزعيم والمتصرف في أُمور جماعة معينة ،يكون في نفس الوقت حامياً وناصراً وصديقاً ومحباً لجماعته ،أي أن مسألة النصرة والحماية تعتبر من مستلزمات وشؤون الولاية المطلقة .
8وأخيراً قالوا: من أين أتي علي( عليه السلام ) بذلك الخاتم النفيس ؟
وسألوا أيضاً: ألا يعتبر ارتداء خاتم بتلك القيمة العالية نوعاً من الإِسراف ؟
ألا تعتبر هذه الأُمور دليلا على عدم صحة التّفسير المذكور .
الجواب:
إِنّ المبالغات الواردة بشأن قيمة الخاتم الذي تصدق به علي( عليه السلام ) أثناء الركوع لا أساس لها مطلقاً ،ولا يقوم عليها أي دليل مقبولوما جاء في قيمة ذلك الخاتم من أنّه كان يعادل خراج الشام مبالغة أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة ،وقد جاء ذلك في رواية ضعيفة{[1076]} ولعل هذه الرواية وضعت لتشويه حقيقة القضية الأصلية واظهارها بمظهر الأمر التافه ،وقد خلت الرّوايات الصحيحةالتي وردت حول سبب نزول هذه الآيةمن أي أثر لمثل هذه الأسطورة .
وعلى هذا الأساس لم يتمكن أحد من تهميش هذه الواقعة التّأريخية التي أشارت إِليها الآية الكريمةبمثل هذه الحكاية التافهة .