( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ 94يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ 65 أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 96 )
( ذكر سبحانه وتعالى أشياء محرمة لذاتها لأنها مستقذرة خبيثة في ذاتها ، وفي نتائجها ، وهناك محرمات لمكانها وحال التناول لها ، وليست في ذاتها حراما ، ومن ذلك المحرمات في الحج أو في الإحرام بشكل عام ، سواء اكان للحج أم كان للعمرة أم كان لهما وبعد أن أشار إلى بعض المحرمات لخبثها ولذاتها وهي ، الخمر ذكر سبحانه وتعالى المحرمات لمكانها وحال التناول لها ،
فقال سبحانه وتعالى:( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب ) البيت الحرام في واد غير ذي زرع كما قال إبراهيم ، عليه السلامفيما حكاه الله تعالى عنه إذ قال:( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون 37 ) ( إبراهيم ) .
وكان على المسلمين أن يعملوا على توفير الطعام لهم ، حتى تتحقق إجابة ذلك الدعاء إذ فرض الله سبحانه وتعالى الحج على ذلك البيت المطهر ، ففرض الحج إليه كما قال تعالى:(. . .ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . . .97 ) ( آل عمران ) .
فكان الناس يذهبون اليه من كل فج عميق وإذا كان من مقاصد الحج التوسعة على المقيمين في هذا البيت ، لا يصح أن يكون وجودهم سببا للتضييق عليهم ولو كان الصيد مباحا ، وهم يسكنون البادية ، ومن موردهم الصيد ، ولو فتح باب الإباحة للمحرمين لكان من المتصور أن يستنفذوا كل عام أكثر الصيد الذي يكون حول مكة فيجيئوا بالحرمان بدل التوسعة وبالضيق عليهم بدل الترفيه ، فكان لا بد من منع المحرمين من قتل الصيد حتى لا يكون أهل مكة في ضيق فوق ضيق المكان ، وبعده عن الزرع والثمار .
النداء في النص القرآني الكريم الذين آمنوا ، لأنه من مقتضيات الإيمان ذلك الخطاب ولم يكن تحريم الصيد للمحرمين لهذا فقط ، بل لاختبار النفس المؤمنة ولتعويدها الصبر ، ولتربية العزيمة إن العزيمة تتربى في صغار الأمور كما تتربى في كبارها وإن كبارها تحتاج إلى قوة جسمية وارادة نفسية أما الأمور الهينة اللينة فإنها تحتاج إلى عزيمة روحية ولذا قال تعالى:( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة غلا على الخاشعين45 ) ( البقرة ) وإنه يكفي المنع من شيء ليطلبه الممنوع منه وفي الأمثال:كل ممنوع متبوع وجاء في ذريعة الأصفهاني أنه ورد في بعض الآثار ان الناس لو منعوا من البعر لفتوه ، وقالوا ما حرم علينا إلا لشيء فيه .
والكلام في قوله تعالى:( ليبلونكم ) اللام هي التي تدل على القسم ، والنون هي المؤكدة والمعنى لنعاملنكم معاملة المختبر ، الكاشف لحقيقة نفوسكم وعزائمها ، وإراداتكم وتصميمكم ، وصبركم النفسي ، وكان ذلك الاختبار النفسي الكاشف لعزائمكم في أمر صغير في واقعه ، كبير في معناه ، فموضوع الاختبار عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته:
( بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ) وهذا الموضوع للاختبار يتسم بأمور ثلاثة:أولها أنه شيء قليل لأن التنكير هنا للتقليل كما يدل عليه ما بعدهوالثانيانه بعض الصيد والثالثأنه قريب منكم يغري النفس ويحرضها على فعل المنهى عنه ، اذ عن أيديكم تستطيع تناوله اذ كان قريبا صغيرا وتستطيع رماحكم أن تناله إذا كان كبيرا او بعيدا بعدا نسبيا . وإن الاختبار الذي يجعل النفس في مشقة هو في هذا القرب ، فالاختبار ليس في أمر يشق على الأجسام كالجهاد إذ يحتاج الى قوة جسم ومهارة وفن عقلى ولكن الاختبار في أمر هين لين ، ولكن فيه مشقة على النفس ، وجهاد النفس عن شوقها وعن شهوتها يقل عن جهاد الجسم المرن ، والعقل المدرب الماهر ، ولعل ذلك جهاد أكبر .
وان الذي ينجح في ذلك البلاء يكون ممن يخاف الله تعالى في غيبه عنه ، وفي مشهده له ، بل إنه يحس دائما بمقام المشاهدة{[985]} فلا يحس بأنه غيب عن الله تعالى قط ، ولذلك قال تعالت كلماته:( ليعلم الله من يخافه بالغيب ) أي ليظهر الله تعالى فيمن يخافه بالغيب ولكن ما الغيب وما حال من يخافه ، قال بعض المفسرين:إن المراد غيب يوم القيامة أي أن من يحرم الصيد وأشباهه على نفسه ويعقد عزيمته على ذلك يظهر إيمانه بالآخرة وهي مغيبة عنه ، ويخافها لأن نفسه تكون من النفوس الصابرة المبتعدة عن أهواء الدنيا ، فلا تغمرها شهواتها فتنفذ طيبة إلى الآخرة وقال بعض المفسرين:عن المراد غيب الله تعالى أي أن من تكون له تلك العزيمة القوية فيكون ممن يراقب الله تعالى دائما ، فيعبد الله كأنه يراه فالله في قلبه دائما يخافه ويتقيه ولا مانع من الجمع بين المعنيين .
( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) الاعتداء تجاوز الحد ومخالفة أوامر الله تعالى ، كما قال تعالى:(. . .وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه . . .1 ) ( الطلاق ) .
ومعنى النص الكريم:ومن تجاوز ما أمر الله تعالى بعد إعلامه بأنه اختبار من الله لتربية نفسه وتهذيبها وإشعار بمخافة الله تعالى ، وهو غائب بأن يمتلئ قلبه بالإيمان به ، ويطيع الله كأنه يراه ، من اعتدى بعد هذا فهو يعاند الله تعالى ويكابره ، ومن يكون قلبه ممتلئا بالمكابرة والمعاندة فان الإيمان لا يسكن قلبه ، ويكون له عذاب أليم .
وقد يقول قائل:إن الله تعالى ذكر جزاء من قتل الصيد متعمدا فقال تعالى على ما سنتلوه إن شاء الله تعالى ، ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ) وذلك ليس عذابا أليما ويجاب عن ذلك ، بأن ذلك ليس مجرد جزاء للذنب الذي ارتكبه كله ، ولكنه جزاء دنيوي يعود به على الذين في بيت الله ، أما الجزاء الأخروي ، فان الله مستقبله به يوم القيامة وفوق ذلك أن ما ذكره تعالى في جزاء القتل للصيد ، غنما هو جزاء الفعل والعذاب الأليم جزاء المكابرة والمكابرة التي تدل على نقص الإيمان بل تدل على عدم الاستسلام لله تعالى