( قد خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .
هذا حكم الله تعالى فيهم في الدنيا والآخرة فقد خسروا أنفسهم وأولادهم وأموالهم في الدنيا ونالوا العذاب الدائم في الآخرة بافترائهم على الله بزعمهم أن ذلك بأمر الله أو رضا منه والافتراء على الله تعالى عاقبته عذاب اليم وقوله تعالى:( سفها ) أي بخفة عقول وجهل ، ولا علم ولا سبب للعلم .
وأي سفه وخفة عقل وعدم تفكير أقبح من أن يقتلوا أولادهم من إملاق او خشية إملاق وفي الوقت نفسه يحرمون بعض أموالهم على أنفسهم كتحريمهم البحيرة والسائبة والحام والوصيلة إنه جهل مبين ، وعقل سفيه ، لا إدراك فيه ، وينسبون ذلك إلى الله من غير علم .
إن الخسارة في الدنيا واضحة خسروا أولادهم الذين هم فلذات أكبادهم بوأدهم أو قتلهم من إملاق او خشية إملاق وخسروا أموالهم التي حرموها على أنفسهم بأوهامهم وأنفقوها إسرافا وبدارا على خدمة أوثانهم وخسروا إيمانهم إذ أشركوا بالله وافتروا وأنهم حرموا بالوهم الفاسد وزعموا أن ذلك تحريم الله تعالى وخسروا الحق في ذاته وأثموا إثما عظيما ، مع قتل الأولاد .
( وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله ) هذا هو الأمر الثاني الذي خسروه ، أو كان فيه خسرانهم بأن رزقهم رزقا ، فجعلوا منه حراما فخسروا ولم ينتفعوا بنعمة الله التي أنعمها ، وافتروا على الله ، فقالوا:بزعمهم الكاذب:إن الله تعالى هو الذي حرمها ، وبذلك حكموا أوهامهم فخسروا عقولهم وسيطرت عليهم أوهام بثها فيهم الشياطين فهم في تحريم ما رزقهم ارتكبوا إثمين:إثم التحريم وإثم نسبته على الله تعالى افتراء عليه ، ولذلك كان الخسران في الدنيا ، والعقاب في الآخرة والضلال المبين ولذا قال تعالى:
( قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) .
حكم الله تعالى عليهم حكمين وأكدهما:أولها الحكم عليهم بأنهم وقعوا في الضلال والبعد عن الحقيقة وقد أكد الضلال بقد لأن قد يكون في القرآن للتحقيق سواء أدخلت على الماضي أم على المضارع فلا يكاد في القرآن استعمالها غلا للتحقيق فلا تكون للتقريب ولا تكون للتكثير أو التقليل .
فالله قد أكد ضلالهم وأي ضلال اشد من أن يقتلوا أولادهم للإملاق وفي الوقت نفسه يمنعون ما رزقهم فيقعون في الإملاق .
الحكم الثاني:أنه سبحانه وتعالى حكم بأنهم ما كانوا مهتدين فبين في الحكم ، ضلالهم وبين في الحكم أنه ليس من شانهم أن يهتدوا ولذلك نفى وصف الاعتداء وأكد ذلك النفى بالجملة الاسمية وبنفى الوصف عنهم .
ونقول هنا إننا بينا أن الخسران في الدنيا والآخرة وهو في الدنيا واضح بين وفي الآخرة مؤكد وقد رأينا بعض المفسرين يقولون إن الخسارة هي في الآخرة لا في الدنيا واستدل بقوله تعالى في سورة يونس:( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ 69مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ 70 ) . ( يونس ) .
ولكنا لا نراها تدل على أن الخسارة في الآخرة فقط وفوق ذلك أن الآية السامية التي نتكلم في معناها السامي ، قد شملت قتل الأولاد وتحريم ما رزق الله تعالى افتراء أما هذه الآية التي ساقها المفسر الفاضل فانها في اتخاذ الولد ونسبته إلى الله بدليل الآية التي قبلها إذ يقول الله تعالى:( قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 68قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ 69 ) . ( يونس )ا لى آخر الآية الكريمة . . .فكان بمقتضى النسق البياني للقرآن أن يكون العقاب الآخرون أما في الآية التي نتكلم في معناها فواضح أنهم خسروا في الدنيا بقتل أولادهم سفيها بغير علم وتحريم ما أحل الله تعالى وافتراء على الله تعالى .
وإنه من أقبح ما يتصور الإنسان من سفه الأحلام قتل أولادهم وخصوصا وأد البنات انهم خسروا بذلك خسرنا مبينا .
وقد جاء في تفسير القرطبي:روى أن رجلا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك تكون محزونا فقال يا رسول الله:اني أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله ، وإن أسلمت فقال صلى الله عليه وسلم اخبرني عن ذنبك قال:يا رسول الله اني كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت لي بنت فتشفعت إلي امرأتي أن اتركها ، فتركتها ، حتى كبرت وأدركت وصارت من أجمل النساء فخطبوها فدخلتني الحمية ، ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج ، فقلت للمرأة:اني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا في زيارتي أقربائي فابعثيها معي ، فسرت بذلك ، وزينتها بالثياب والحلي وأخذت على المواثيق بألا يخونها فذهبت الى رأس بئر ، فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن القيها في البئر فالتزمتني ، وجعلت تبكي وتقولك يا أبت أي شئ تريد أن تفعل بي ، فرحمتها ، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية ثم التزمتني وجعلت تقول:يا أبت لا تضيع أمانة أمي فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها أرحمها ، حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر معكوسة وهي تنادي في البئر يا أبت قتلتني فكنت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال:( ان الله لرءوف لو أمرت أن أعاقب أحدا بما كان في الجاهلية لعاقبتك ){[1062]}
هذه قصة مثيرة ولا بد أنها كانت تقع من الجاهليين سواء أصحت هذه الرواية بالذات أم لم تصح فكيف لا تكون الخسارة في الدنيا بهذا الطيش الجاهل رحم الله أمثال هذه الفتيات .