وقد بين الله تعالى انه قطع عليهم عذرهم بإنزال القرآن الكريم فلا حجة لجهلهم من بعد بيانه ، وإنه المبارك والنور ، وفيه الهداية وفيه الشريعة الكاملة .( أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ) .
( أو ) عاطفة على ( أن تقولوا إنما انزل الكتاب على طائفتين . . . ) فإنزال الكتاب الكريم لكيلا يقولوا انما أنزل الكتاب على طائفتين أو يقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ، فالآية السابقة اعتذار أو في معنى الاعتذار عن شركهم وإيمان غيرهم وهذا لبيان ما يرجون لأنفسهم من فضل لو انزل عليهم كتاب مثل ما أنزل على غيرهم بل انهم يحسبون كما يحسب كل مفتر أنه لو جاء إليهم أمر من الأمور لعملوا بما يدعو اليه .
وإن المشركين قرروا ذلك كما حكى عنهم القرآن الكريم في قوله تعالى:( واقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ) ( فاطر ) .
أكدوا أنهم لو أنزل عليهم الكتاب لكانوا أهدى منهم فقالوا:( لو أنزلنا علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ) الكتاب المراد الذي أنزل على الطائفتين من قبلهم ، ولكنه لم ينزل علينا ،فلهم الهداية دوننا ، و ( لو ) هنا حرف امتناع لامتناع ، أي امتنع علينا أن نكون مثلهم لأنه لم ينزل علينا مثلهم .
أنزل الله تعالى الشرطية الأولى ، وهي أنهم لم ينزل عليهم فقال تعالى:( فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) .
وعبر عن الكتاب الكريم بقوله:( بينة ) إذ المعنى فقد جاءكم كتاب هو بينة ، وعبر بهذا التعبير للإشارة إلى أنه بين في ذاته ، وهي بينة فيها ما يدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم والدلالة على النزول من عند الله تعالى فهو كتاب بين يحمل في نفسه دليل صدقه لأنه حجة يتحدى بها ، وقد تحداهم أن ياتوا بمثله فعجزوا عجزا مبينا .
و ( الفاء ) في قوله تعالى:( فقد جاءكم ) للإفصاح عن شرط مقدر مضمونه في كلامهم أي فإذا كنتم تطلبون أن ينزل عليكم كتاب فقد جاءكم ) .
وقد وصف سبحانه الكتاب بأربعة أوصاف .
أولها:أنه ( بينة ) أي هو بين في ذاته وفيما دل عليه من شرائع بينها وفصلها وأحكم بيانها .
ثانيها:بانه( من ربكم )الذي خلقكم ويعرف مايصلح اموركم وينفعكم في معاشكم ومعادكم
ثالثها:أنه فيه الهداية إلى الصراط المستقيم وإصلاح نفوسكم ، وهداية جمعكم .
ورابعها:أن فيه الرحمة بكم ، لأن فيه الشريعة المحكمة وهي رحمة للعالمين ولأنه هو نبي الرحمة ، قد جاءكم القرآن بما تطلبون أو بما تتمنون أو بما يكون فيه ادعاؤكم فهل آمنتم ؟ كلا لم يؤمنوا وكان كلامهم غرورا أو تغريرا ، وهو ضلال في كل أحواله ، بل كذبوا بآيات الله ، وانصرفوا عنها ، ودعوا الناس للانصراف عنها ، فضلوا وأضلوا وأشاعوا فساد الفكر والاعتقاد بين الناس وهم بهذا أشد الظالمين ولذا قال تعالى:
( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ) إنهم بعد أن جاءتهم الرسالة مع الكتاب الذي ادعوا أنه لو أنزل عليهم الكتاب لكانوا أهدى الأمم أي أكثرها هدى فلما جاءتهم كذبوا بها ، وكذبوا بآيات الله التي أقامها عليهم في التصديق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم كذبوا بالآيات الكونية الدالة على وحدانية الخالق فكذبوا بدلالتها على هذه الوحدانية وكذبوا بآيات القرآن فلم يصدقوه وهو آية كبرى ، فكانوا ظالمين أشد الظلم ولذا قال تعالى:( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ) ( الفاء ) للإفصاح عن شرط مقدر ، أي انهم إذا كانوا قد كذبوا الرسول الذي جاء ببينة من عند ربهم فقد ظلموا والاستفهام هنا لإنكار الوقوع ، أي النفى مع التوبيخ أي لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى وصدف عنها فقد ارتكب ظلمين فاحشين:
أولهما:انه كذب بآيات الله تعالى الدالة على كمال ربوبيته ووحدانيته وعاند الله تعالى في رسالة نبيه وتكذيبه له ، وإن ذلك ظلم وكفر وضلال .
ثانيهما:أنه صدف عنها:أي اعرض عنها إعراضا شديدا فانصرف عنها ، وعمل على أن يصرف غيره عنها ، فالصدف الانصراف عنها ، وصرف الناس عنها بتضليلهم وإيذاء المهتدين لحملهم على الضلال والفساد والتحريض على ضعاف المؤمنين وإيجاد رأي عام ضال مضل ، ولقد أنذر الله تعالى الذين أعرضوا عن الحق ، ودعوا الناس إلى الإعراض وآذوا من لم يعرض عنه ، وسلك سبيل المؤمنين فقال تعالت كلماته:
( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ) .
( السين ) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل وعبر بالسين الدالة على قرب الوقوع المؤكد للدلالة على قرب الوقوع وتأكده وكل آت قريب ما دام مؤكد الوقوع .
واسند سبحانه وتعالى الجزاء إلى ذاته العلية لتأكد وقوعه فإن الله لا يخلف الميعاد عذابا أو ثوابا .
وعبر سبحانه وتعالى عن الظالمين بالاسم الموصول وهو إشعار بأن الصلة هي السبب في هذا الجزاء الشديد الذي وصفه سبحانه باسوا العذاب ، أي عذاب وقعه يسوءهم ويؤلمهم وهو في ذاته سوء لا يكون الا لمن تكون عاقبته السوء ، ولمن كان يفعل ما يسوء ، ويكفر بالله تعالى وذكر سبحانه السبب في هذا العذاب الذي هو سوء في ذاته فقال:( بما كانوا يصدفون ) أي بسبب استمرارهم على الصدف بإعراضهم وحمل الناس على أن يعرضوا عن سبيل الله سبحانه وتعالى .
وهكذا نرى المشركين في ضلال مستر ، فهم يضلون في أقوالهم وأفعالهم وشركهم وقانا الله شر مآلهم .