ما أنعم الله به على من هداهم( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ 160 قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 161 قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ 163 قْل أَغَُيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 164 )
ذكر الله تعالى أحوال الكافرين بالرسالة المحمدية وعناد المشركين الذين عاندوا وكفروا بالآيات كلها ، وأعقبهم بالإشارة إلى المتنابذين الكفار من أهل الكتاب وضلالهم .
وكان لا بد من بعد ذلك من أن يذكر النور بعد الظلام فاخبر سبحانه وتعالى عن المهتدين وأنه يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات إذا صدق الإيمان وكانت الهداية الغالبة في أعمالهم وامتلأت بها قلوبهم ولذا قال تعالى:( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ) .
من جاء بالحسنة أي العمل الذي هو حسن في ذاته واستحسنه الشرع الشريف وحسنة:صفة موصوفها فعله حسنة في ذاتها ، وراها الشرع حسنة نافعة للناس فيها معاونة أو فيها طهارة وتزكية روح وإعانة محتاج وإغاثة ملهوف ، وغير ذلك مما هو في أخلاق الناس أمر حسن أو فيه نفع قصد به وجه الله تعالى وجزاء الحسنة عشر أمثالها أي حسنات تساوي عشر أمثالها ، أو هي عشر من هذه الحسنات وفي قراءة ( عشر أمثالها ){[1081]} برفع عشر وتنوينها أي بمقدار عشر هي امثال هذه الصدقة ويظهر أن ذلك هو الحد الأدنى ، وتعلو الحسنة بعلو القصد في النفس وبعلو الموضوع بمقدار النفع والتعاون للإنسان وقد ذكر سبحانه وتعالى أن جزاء الصدقة سبعمائة مثل ، فقال تعالى وهو اصدق القائلين:( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم 261 ) ( البقرة ) وذلك لأن الصدقة تتضاعف آثارها وتكثر ثمراتها فهي تشبع نفسا جائعة وتمنع تفككا واضطرابا وتلقى أمنا وسلاما وتزيل أحقادا وتوجد تعاونا مستمرا ، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ، وسماه الله تعالى قرضا لله تعالى فقال ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا . . .11 ) ( الحديد ) وإن من يقرض موجد الوجود يكون بدله أضعافا مضاعفة كمن يعطي ذا مروءة عطاء فإنه يزيد في بدله فكيف بخالق الناس ولله المثل الأعلى في السموات والأرض .
وجزاء سيئة مثلها لا يزيد عنها ، وقد يغفرها سبحانه ، ولذا قال تعالى:( ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الا مثلها ) وحد الله سبحانه وتعالى هنا الجزاء حدا لا يتجاوزه فذكر أنه لا يجزي الا مثلها ، فنفى واثبت وذلك قصد للجزاء لا يعدوه أما ما ذكر من جزاء الحسنة فذكر أنه عشر أمثالها ولم يذكره سبحانه وتعالى حتى لا يعدوه بل هو حد أدنى يقبل بحسب أحوال النفوس وبحسب موضع الحسنة وكلما كانت متصلة بالناس لنفعهم تضاعف الجزاء كما جاء في آيات الصدقات والتعبير في بعضها بأنها قرض لله سبحانه وتعالى ، وهو الغني الحميد كما قال تعالى:( يا ايها الناس أنتم الفقراء على الله والله هو الغني الحميد 15 ) ( فاطر ) .
ولقد جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يفيد أن في معنى الآية من الحد بعشر أمثالها هو حد أدنى فقد روى مسلم والامام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بسيئة فجزاء سيئة مثلها أوا غفر ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذرعا ومن تقرب الي ذراعا تقربت منه باعا ومن أتى يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض ( أي بما يقربها في ملئها وحجمها ) خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة ){[1082]}
والسيئة الأمر الذي يسوء في نفسه ، ويسوء الناس ويعصي به الله تعالى ، وعبر عنه بالسيئة بأقبح ما يكون من معاص فان أعلى المعاصي ما يكون إساءة للناس وإيذاء .
وقد صرح الحديث بالنسبة لمن يهم بسيئة فلم يفعلها بأنه لا يكتب له شيء ومن هم بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة لأن النية الطيبة حسنة ذاتها فالأعمال بالنيات .
ولقد تكلم ابن كثير في بيان أحوال من يهم بسيئة فلم يفعلها فقد قسمها على ثلاثة أقسام باعتبار حال التارك لها بعد أن يهم فقال رضي الله عنه:( اعلم أن تارك السيئة الذي لا يعلمها على ثلاثة أقسام ، تارك يتركها لله تعالى فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى ، وهذا عمل ونية ، ولذا جاء أنه يكتب له حسنة ، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح:( فانه تركها من جرائي ) أي من أجلي{[1083]} وتارة يتركها نسيانا وذهولا عنها ، فهذا لا عليه ولا له لأنه لم ينو خيرا وما فعل شرا ، وتارة يتركها عجزا وكسلا عنها بعد السعي في أسبابها والتلمس بما يقرب منها ، فهذا بمنزلة فاعلها ) .
وإن ذلك تقسيم حسن اخص ما فيه أنه يخرج ممن يهم بسيئة ولم يفعلها من هم وأخذ في الشروع في جريمة ولكن حال بينه وبينها أمر لا يستطيع مدافعته فهو لا يكون قد هم فقط بل نوى الفعل واعتزمه ولكن عجز لأمر خارج عن إرادته .
ولقد ختم العلي القدير كلماته في هذا الموضوع بقوله تعالى:( وهم لا يظلمون ) إن الآيات عطاء وعفو ، فالعطاء من فضل الله تعالى والعفو من رحمته وهو الذي يعطي من يستحق ويمنع عمن يستحق ، وإن شاء غفر ، وعلى ذلك لا يظلم أحدا شيئا لا يمنع حقا ، بل يعفو ويصفح عن أهل الإيمان الذين لا يشركون به شيئا وهو السميع العليم .